صباح بشير تكتب "قبل أن يستيقظ البحر".. مرثية الحبّ في زمن الرّماد والمنفى

 

 

بقلم الإعلامية الدكتورة : فريده شرف # مع فريده .. ربنا يهدي سرك 

عندما ينشغل الآباء بتوفير المال على حساب تربية أبنائهم .. حكاية جيل يملك كل شيء إلا ما يحتاجه فعلا .

في زمن صار فيه السباق على المال أسرع من نبض القلب ، نرى آباء يركضون بلا توقف ، من دوام إلى آخر ومن مسئولية إلى أخرى ، بذريعة واحده : " أريد أن أوفر لأبنائى حياة أفضل " .

لكن الحقيقة التى نغض الطرف عنها كثيرا هي أن الحياة الأفضل لا تقاس بعدد الألعاب ، ولا بعدد الغرف ، ولا بحجم المدخرات .. بل تقاس بكمية الوقت ، والإهتمام ، والحوار ، والحب ، والأمان التي يتلقاها الأبناء .

أطفال عيشون في بيوت فاخرة .. بقلوب خاوية 

في غياب الآباء العاطفى ، يكبر الطفل في بيت ملئ بالأشياء .. لكنه يفتقد أهم شيء : وجود أب يرى ، ويد تنجد ، وأذن تسمع ، وقلب يحتضن .

فالطفل الذى يحصل على كل ما يريده ماديا ، لكنه لا يحصل على من يفهم خوفه ، أو يحتفل بنجاحه ، أو يسمع شكواه ، او يرى دموعه .. هو طفل يعيش " ترف الحرمان " .

المادة تعالج الإحتياجات .. لكنها لا تعالج الطفولة 

قد يظن الأب أنه بتلبية الإحتياجات الأساسية المادية ، يقوم بذلك بواجباته كامله ، لكن الطفل ليس قائمة مشتريات ، أنه يحتاج إلى : أبا يشرح له الحياة .. أما تقوده إلى الأمان .. فردا يشعره بالإنتماء .. لحظة صادقة يرى فيها نفسه في أعين والديه .

فالغياب العاطفى يخلق فجوة داخلة لا تملأ بالمال ولا بالهدايا .

حين يتحول الأب إلى " محفظة " وليس " قدوة " .

الأب الذى يعمل ليلا ونهارا من أجل مستقبل أبنائه ، ينسى أحيانا أنه المستقبل نفسه ، وأن غيابه يجعل الأطفال يبحثون عن قدوة في أماكن أخرى : من أصدقاء غير مناسبين .. في فضاءات الإنترنت .. في المشاهير .. أو في سلوكيات خطرة ، كنوع من لفت الإنتباه .

يقول الأب " أعمل علشان مستقبلهم " ، لكن ماذا يفعل الطفل بمستقبله إذا حشر داخله ؟ .. كيف سيقف على قدميه إذا لم يعرف أولا معنى الآمان ؟ 

لقد نسينا أن الطفل لا يحتاج ثيابا جديدة .. بل يحتاج قلبا يسنده ، ولا يحتاج لعبة غالية .. بل يحتاج وقتا صادقا ، ولا يحتاج غرفة كاملة .. بل يحتاج حضنا يعلمه أنه ليس وحده .

اضطرابات نفسية تبدأ من هذا الغياب .

الطفل الذى ينشأ في ظل غياب الوالدين العاطفى ، يصبح أكثر عرضة ل : القلق وإرتباك المزمن .. إنخفاض تقدير الذات .. التعلق المرضى بالأشخاص . .السلوك العدوانى أو الإنسحابى .. فقدان القدرة على الثقة في النفس والغير .. إدمان الحاجات العاطفيه في علاقاته المستقبلية .. الإتجاه للسلوكيات الإدمانية .. دور الضحية في كل علاقة .. بحث مستميت عن القبول .. قدرة ضعيقة على التعبير عن الإحتياج .

وكلها جذورها ليست في مرحلة الرشد ، بل في طفل لم يجد من يحمله حين يبكى 

فالتربية ليست فقط طعاما وملابس ، التربيه نفس تتطمئن ، ووجود يشعر بالأمان .

تبرير الآباء " نفعل هذا من أجلكم " .

هذا التبرير قد يكون صادقا .. لكنه قاس ، لأن الطفل لا يفهمه ولا يحتاجه ولا يراه .. هو لا يعرف معنى الفواتير ، ولا مسئوليات الحياة ، ولا ضغوط العمل ، هو يعرف فقط شيئا واحدا " أبى لا يسألنى عن يومى .. أمى لا تلاحظ حزنى .. وأنا وحيد " .

ما يحتاجه الطفل ليس وقتا طويلا .. بل وقتا صادقا .

قد يظل الأب مشغولا ، لكن : عشر دقائق إتصال حقيقى .. حضن عن العودة للبيت .. حديث صادق قبل النوم .. مشاركة بسيطة في الألعاب أو الدروس .. أو سؤال عميق " إزيك أنهاردة ؟ " تغير طفلا بأكمله .

الطفل لا يقيس السعادة بساعات ، بل بنظرة الإهتمام في أعين والديه .

الأبوة ليست فاتورة تدفع .. بل علاقة تبنى .

الطفل لا يفهم " كنت مشغولا " .. لكنه يفهم " أنا مش مهم " ، لا يدرك الآباء حقيقة صادمة : أن الطفل لا يملك القدرة على تفسير غيابهم ، هو لا يعرف معنى الفواتير، ولا يعى ضغوط الحياة .

هو يفسر كل شيء برد واحد : " لو كنت مهما ، كانو هيفضلو معايا " ، وفى تلك اللحظة تتشكل أول ندبة في قلبه ، ندبة سترافقه إلى علاقاته .. زواجه .. صداقاته .. وحياته كلها .

المال يبنى بيتا ، لكن الحب وحده يبنى عائلة ، ولكل طفل سينمو يوما ويكبر ، وسينسى الألعاب ، وينسى الثياب ، وينسى الهدايا .. لكنه لن ينسى كيف كانت نظرة أبيه إليه .. كيف كانت حنان أمه .. وكيف كان يشعر داخل هذا البيت .

حين يتحول البيت إلى فندق والأهل إلى زوار .

لم تعد البيوت تنبض بصوت الآباء كما كانت ، صار الأب يدخل المنزل منهكا ، والأم تائهة في تفاصيل اليوم ، والأطفال يحفظون خطواتهما كما يحفظ المسافر جدول الطائرات : وصول .. إقامة قصيرة .. ثم المغادرة .

البيت بلا دفء عاطفى ليس بيتا ، بل جدران تؤوى أجسادا وتهمل أروحا .

حين يلتفت الآباء أخيرا .. يجدون أطفالهم كبروا .

أخطر ما في الإنشغال أنه يجعل العمر يمر دون أن نشعر ، يشب الأطفال فجأة ، وتصبح مشاكلهم أكبر من أن تحل بحضن ، وتصبح فجواتهم أعمق من أن تردم بكلمات .

حينها فقط يدرك الآباء الحقيقة القاسية .. لقد كانوا يبنون مستقبلا ، بينما كان أبناؤهم يبحثون عن حاضر يفتقدونه .

الخلاصة : التربية ليست توفيرا .. بل وجود ، وليست هدايا .. بل وعى ، وليست " غدا سيكون أفضل" .. بل اليوم الذى يحتاجه الطفل الآن .

وكل طفل يترك دون حب كاف ، ينمو .. لكنه يحمل داخله شتاء طويلا لا يذوب بسهولة .

 ليس المطلوب أن يتوقف الأباء عن العمل ، بل المطلوب ألا ينسو لمن يعملون ، فالطفل الذى يحرم من العاطفة يكبر .. لكنه لا ينضج ، ويحقق .. لكنه لا يهدأ ، ويعيش .. لكنه يظل يبحث عن قطعة حب لم يجدهها في طفولته ، ، فإذا وجد طفلك يمر بأوقات منهكه ومشاعر سيئه دائمة ، فأعلم أن النفس تمرض كالبدن وتحتاج إلى علاج ، فإذا طال الآلم والأذى ، فليس في اللجوء إلى إستشارى صحه نفسيه وعلاقات زوجيه ما يدعو للخجل .

.... ومع فريده ، ربنا يهدى سرك .