رئيس المجلس العالمي للتسامح والسلام شارك في لقاء الصلاة المسكونية بين الأديان في لبنان بحضور قداسة البابا/الهرم المصرى نيوز

 

بقلم كوتش زاهيا السبخى استشارى تدريب وتنمية مهارات مدرب معتمد من منظمة العمل الدولية فى مناهضة العنف القائم على النوع الاجتماعى 

قراءة من منظور كوتش في العنف الموروث وانحدار القيم

قصة تهزّ المجتمع… لكنها ليست جديدة

في الأيام الماضية، ضجّت وسائل التواصل بقصة فتاة تعرّضت لما يُسمّى “البشعة”؛ ممارسة بدائية تقوم على إذلال المتهم عبر كَيّ لسانه بالنار لإجباره على الاعتراف أو إثبات براءته. ورغم أن كثيرين تعاملوا مع الحدث باعتباره مشهدًا صادمًا وغريبًا، الحقيقة أنه ليس غريبًا على بعض الفئات فى مجتمعات ما زالت تحكمها موروثات بالية و قديمة ترى جسد المرأة وكرامتها جزءًا من “نظام الشرف” لا من إنسان كامل الحقوق.

هذه الواقعة ليست مجرد قصة “فتاة” أو “خطأ فردي”. إنها مرآة تعكس جذورًا أعمق لعنف موروث تُغذّيه ثقافة صامتة، وتعيد إنتاجه يوميًا، حتى أصبح جزءًا من تطبيع مؤلم لا نراه… إلا عندما يصل إلى حدّ الحريق.

بصفتي كوتش أعمل مع سيدات في مساحات مختلفة، رأيت كيف تترك هذه الأنماط آثارًا نفسية طويلة المدى، وكيف يصبح الألم الداخلي امتدادًا مباشرًا للعنف الخارجي.

البشعة: حين يتحوّل الجسد إلى ساحة محاكمة

البشعة ليست مجرد طقس قبلي قديم، بل هي نموذج واضح لفكرة ترى أن الحقيقة لا تُثبت بالعقل أو التحقيق أو القانون… بل بالإيذاء الجسدي. الأكثر خطورة أن هذه الممارسة تُستخدم في قضايا تمسّ النساء أكثر من غيرهن، خاصة تلك المتعلقة بالشرف والاتهامات الأخلاقية.

المرأة في هذا السياق لا تُعامل كفرد له صوت، بل كموضوع يجب “اختباره”.

جسدها يصبح مسرحًا للإدانة، وكرامتها تُختزل في “تحمّل الألم”.

البشعة… عنف مغلّف باسم “التحقق”

البشعة ليست مجرد “عادة بدوية” أو “إجراء شعبي”، بل هي شكل مباشر من أشكال العنف الجسدي والنفسي. أن تُجبر إنسانة على لعق أداة معدنية محماة بالنار، تحت ضغط الخوف والاتهام والعيون المترصدة، فهذه ليست وسيلة لكشف الحق، بل طقسٌ قائم على الإذلال وترهيب الضحية.

المرأة تحديدًا كانت – وما زالت – أكثر الأطراف تعرضًا لهذه الممارسة، لأن المجتمع في الكثير من الأحيان يربط “الشرف” بجسدها وسلوكها وحدها، فيصبح الضغط عليها مضاعفًا، والخوف أكبر، والاتهام أسرع… والحكم أقسى.

عنف موروث… لكنه مستمر 

قصة الفتاة أعادت تسليط الضوء على حقيقة مؤلمة:

لسنا فقط أمام حادث فردي، بل أمام نمط اجتماعي موروث، يجدّد نفسه كلما غاب القانون، وضعف الوعي، وارتفعت سلطة العُرف على حساب حقوق الإنسان.

هذا النوع من العنف لا يبدأ بالبشعة وينتهي بها، بل يمتد عبر:

• تبرير الإيذاء تحت شعار “التقاليد”

• الصمت عن الانتهاكات داخل الأسرة

• لوم الضحية بدلًا من محاسبة الجاني

• تضخيم فكرة “السمعة” على حساب كرامة المرأة

• تقديس أعراف لا تنتمي إلى أي دين أو أخلاق

إنه عنف جيلي، ينتقل مثل إرث غير معلن، يُمارس حتى وإن لم ننتبه إليه.

وهنا تكمن المشكلة:

**حين يتحوّل الجسد الأنثوي إلى أداة لإثبات البراءة، تتحوّل المرأة إلى كائن بلا قيمة ذاتية… مجرد ملكية قابلة للفحص.**

كيف تصبح المرأة الحلقة الأضعف؟

المرأة ليست ضعيفة في ذاتها، لكن المجتمع يصنع حولها منظومة كاملة تجعلها الحلقة المستهدفة:

• تُحمَّل مسؤولية “الشرف” وحدها

• يُنظر لجسدها كمساحة للحكم الأخلاقي

• يُساء تفسير صمتها على أنه “اعتراف”

• تُحاكم عرفيًا بدلًا من الاحتكام للقانون

وفي حالة البشعة، تتحول المرأة من صاحبة حق إلى متهمة قبل أن تتكلم، ومدانة قبل أن تُسمع.

البشعة ليست تراثًا… إنها إساءة

لا يمكن النظر إلى الممارسات المؤذية بوصفها “تراثًا يجب احترامه”.

التراث الذي ينتهك كرامة الإنسان — رجلًا كان أو امرأة — يتحول إلى قيدٍ اجتماعي، لا إلى قيمة.

والخطر الحقيقي ليس فقط في حدوث الواقعة، بل في وجود من يراها “طبيعية”… أو “لازم تحصل علشان نعرف الحق”.

**العنف الموروث: كيف نرث الألم دون أن نشعر؟**

العنف ضد المرأة لا يولد فجأة. إنه يُورث.

نرثه في الأمثال الشعبية، في القصص العائلية، في التربية، في توزيع الأدوار، وفي طريقة النظر للمرأة باعتبارها “مصدر خطر” يجب ضبطه أو تقييده.

أمثلة بسيطة نسمعها كل يوم:

• البنت سمعة

• الست لو غلطت الدنيا بتولع

• العيب على البنت مش الولد

• اسكتي… لأن الكلام يجرحك

هذه الجمل ليست مجرد كلمات. إنها برامج ذهنية تغرس الخوف في داخل النساء، وتعطي الرجال مساحة للسيطرة تحت اسم “الحماية”.

نحن لا نرث فقط طريقة التفكير… نحن نرث قيمًا كاملة تحدد مكانة المرأة، ونرث معها عنفًا صامتًا يتحوّل أحيانًا إلى عنف مادي، كما حدث في قصة البشعة.

**حين تنتقل الموروثات إلى مستوى الانحطاط القيمي**

• عندما يصبح العنف جزءًا من الثقافة… تنحدر القيم.

• تختفي العدالة لصالح “السمعة

• يختفي القانون لصالح “العادات

• تختفي الكرامة لصالح “رضا المجتمع

الانحطاط القيمي لا يحدث فجأة

يبدأ عندما نتعامل مع جسد المرأة باعتباره مجالًا مفتوحًا للتشكيك، مع روحها على أنها أقل قيمة، ومع عقلها على أنه غير مؤتمن على اتخاذ القرار.

تدريجيًا يتحوّل المجتمع إلى بيئة تشتعل فيها ممارسات مثل:

• التهديد

• التشهير

• إجبار المرأة على الصمت

• الفحص القسري

• الاختبارات البدائية لإثبات براءتها

“البشعة” ليست ممارسة تراثية فقط… إنها نتيجة طبيعية لانهيار قيمة المرأة في الوعي الجمعي.

**كيف ينعكس ذلك على النساء نفسيًا؟ — قراءة من منظور كوتش**

من خلال عملي مع النساء، لاحظت أن العنف الموروث لا يترك جرحًا جسديًا فقط… بل يترك جروحًا نفسية تعيش طويلًا داخل الروح:

• **فقدان الثقة في الذات**: بسبب إحساس متكرر بأن المجتمع لا يحميها.

• **الخوف المستمر**: خوف من الخطأ، من الانتقاد، من الاتهام، من أن تكون موضع شك.

• **الشعور بالذنب بلا سبب**: لأن المرأة تُربّى على أن تتحمّل أخطاء غيرها.

• **إضعاف القدرة على اتخاذ القرار**: كل خطوة تحتاج “موافقة” المجتمع.

• **تفكك العلاقة بين المرأة وجسدها**: لأنها تشعر أنه ليس ملكًا لها بل ملكًا للجميع.

و