تشديد الرقابة على المطاحن ومحطات الوقود بسوهاج لضمان جودة الخبز وحماية الدعم - الهرم المصرى نيوز

بقلم الدكتورة بسمة محمد السيد حمودة 

دكتورة جامعية .. كلية الاقتصاد المنزلي .. جامعة العريش 

ليس كل ألم قابلًا للحديث عنه، وليس كل وجع يمكن وصفه.

هناك وجع صامت، غائر، يقيم في الروح كأنه ندبة أبدية… وجع لا يُقال، ولا يُرى، لكنه يسكن كل حركة، كل لحظة، كل فكرة تمر بعقل من جرّب الفقد.

هذا هو حال من فَقَد أباه أو أمه.

نحن لا نتحدث هنا عن حزن عابر، أو لحظة وداع مؤثرة، بل عن زلزال داخلي يمحو شكل الإنسان الذي كنّاه، ويتركنا في مواجهة العالم مكشوفين، مهزوزين، خائفين، مهما بدونا أقوياء.

حين نفقد أحد الوالدين، لا نخسر شخصًا نحبه.

نحن نخسر الأصل، الجذر، نقطة البداية.

الأب ليس والدًا فقط، بل هو الإطار الذي نستند إليه دون أن نعي ذلك.

هو من يعطي للأشياء معناها، للحياة أمانها، وللخوف سقفه.

موته لا يُحدث فراغًا فقط، بل يخلق هشاشة داخلية لا تُرمم، تهتز لها قراراتنا وثقتنا، نظرتنا لأنفسنا، وحتى نظرتنا للحياة.

لا يعود في البيت ضوء مهما كانت الكهرباء مشتعلة، ولا يعود في الطريق اتجاه واضح مهما كنا نعرف وجهتنا.

نضيع بشكل صامت… لا ننهار تمامًا، بل نعيش متماسكين مكسورين في آنٍ واحد.

أما الأم، فخسارتها لا تُقاس بأي مقياس إنساني.

فالأم ليست مصدر حنان فحسب، بل هي البوصلة الداخلية لكل تفاصيل الحياة.

معها كنا نشعر أننا بخير، حتى وإن لم يكن شيء على ما يرام.

غيابها لا يترك فراغًا، بل يخلق صقيعًا داخليًّا، يعجز الزمن عن إذابته.

في كل صباح بعدها، يصبح الاستيقاظ عبئًا.

في كل وجبة، يصبح الجلوس على المائدة خاليًا من النكهة.

في كل وعكة صحية، نفتقد يدها، كلماتها، قلقها، تقبيل جبيننا دون أن نسأل.

حين تموت الأم، يموت بيت كامل كان يسكن فينا… وتنطفئ داخلك شمعة كانت تحميك من كل ظلمة.

والناس من حولك؟ يمضون.

يواسونك لأيام، ثم يطالبونك بالصبر، يتوقعون منك التعافي، وكأنك فقدت شيئًا يُمكن تعويضه أو تجاوزه.

لكنهم لا يرون أنك فقدت جزءًا من نفسك… لا يعود أبدًا.

تتظاهر أنك بخير، تبتسم، تُنجز، تضحك، لكن كل شيء مكسور بداخلك.

تفرح في مناسبة وتدمع لأن أحدًا لن يشاركك الفرح من قلبه كما كانوا يفعلون.

تمرض وتكتشف أن لا أحد في هذا العالم يخاف عليك كما كانت تفعل أمك.

تخطئ، وتفتقد نبرة أبيك، لا ليعاتبك فقط، بل ليدلك، ليقف خلفك، ليحملك دون أن تشعر أنك عبء.

قد تمر السنوات، وقد تُسافر وتنجح وتصل إلى ما لم تتخيله، ولكن كل ذلك يظل منقوصًا.

فكل نجاح بلا دعائهم… ناقص.

وكل لحظة تعب بلا وجودهم… موجعة.

وكل حلم تحقق ولم يُبصره أحدهم… موجّه لطريق بلا شهود.

تظن أنك تجاوزت، حتى تأتيك لحظة بسيطة، صورة قديمة، رائحة عابرة، صوت مألوف… فتنهار من جديد.

ليس لأنك ضعيف، بل لأنك تعيش مع جرح لا يلتئم، مع فُقدان لا يُعوّض.

نعم، الإنسان يكمل.

يتحرك، يعمل، يُحب، ويُعطي.

لكن الحقيقة الصارخة التي لا يراها أحد، أن هناك من يسير في هذه الحياة بروح نصف ميتة.

بابتسامة يشوبها الحزن، بصمتٍ يختبئ فيه شوق لا يُحتمل، وبحنين يشتد مع كل يوم يمر، لا يضعف.

في النهاية، لا يوجد ما يُقال ليعبر حقًا عن هذا الفقد.

لا توجد لغة على وجه الأرض يمكنها أن تشرح ماذا يعني أن تموت الأم أو الأب.

موتهم ليس لحظة… بل استمرار دائم للحزن، حالة مزمنة من الغياب.

كلما اشتقت… تذكّرت أنك لا تملك حتى أن تسمع أصواتهم، أو تراهم، أو تكتب لهم، أو تنتظر اتصالًا منهم.

كل ما تبقى… دعاء خافت، وصور قديمة، وألم لا يُترجم.

وتمر الأيام… لكن شيئًا فينا لا يتحرك.

نمشي وداخلنا ميت، نضحك وقلوبنا تنزف، نكمل الحياة مجبرين، بينما أرواحنا معلّقة هناك… عند آخر نظرة، وآخر دعاء، وآخر وداع.

لا أحد يرى أننا منذ موتهم لم نعد أحياء، بل نُقلنا إلى نوع آخر من البقاء: بقاء جسد فوق الأرض، وقلب مدفون تحتها معهم… لا رجعة له.

ورغم أننا رضينا بقضاء الله، وقلنا يومها "الحمد لله"، لكننا لا ندّعي أن الوجع قد سكن.

الرضا لا يُلغي الحنين، ولا يمنع الدمع، ولا يوقف الخفقة التي تؤلمك كلما مرّ طيفهم.

نعم… نحن صابرون.. لكننا موجوعون.

نعيش بقلوب سلّمناها لله، لكننا نحملها يوميًا وهي مثقلة بالغياب،

ونعيد كل يوم قول الله تعالى:

﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ﴾

والصبر الجميل… هو أن تبكي وأنت تقول: "الحمد لله على ما أخذ، كما حمدناه على ما أعطى"، لكنك تبكي لأن قلبك… لم يَعد كما كان.

تحياتي القلبية .. الدكتورة بسمة محمد السيد حمودة