وزير الاتصالات السعودي يستعرض جهود المملكة في تشكيل عصر الذكاء الاصطناعي - الهرم المصرى نيوز

محمود إسماعيل حلمي

    لأَنَّ الأدب مرآة الثقافة والعاطفة الإنسانية اللتين تنبثقانِ عن نفسه، فإِنَّ أعمالَهُ بالخيالِ تُجسِّدُ أروع الأمثلة الكاشفة عن دورهما في تشكيل أركان روح الإنسان وركائز بنيته. وَلَمَّا أن كانَ لي قراءة في "الأدب النِسوي" حينًا من الدهر؛ حيثُ الدفاع عن حقوق المرأة، والسعي إلى السخرية من المجتمع وتجديد قواعده، ومحاولة إكساب المرأة الحرية الذاتية بدلًا من أن تكون تحت لواء الرجل: تابعة له ومتكئة على أكتافه ومُنشطرة عنه. لَمَّا أن كانَ ذلك كذلك، فإِنَّ رواية "الباب المفتوح" للكاتبة المصرية لطيفة الزيات تكشف -في جوهرها- عن ثورة المرأة وتمردها على واقعها غير المرضي عنه، إِلَّا أَنَّها تثيرُ في النفوس مزيجًا أدبيًا من التوفيق بين العلاقات الإنسانية التي تدفع المرأة دفعًا وتزج بها في سبيل الحرية، وهذا هو ما يميز الرواية عن غيرها مِمَّا قرأتُ؛ إذ تجمع بين صراع الحب والولاء للوطن، وما بينهما من عوائق اجتماعية تسجن المرأة بسلاسل من القيود؛ ما يجعلها تضطرب وتعاني نفسيتُها في سبيل اكتشاف هويتها، وهدفها الذي يتخلل تلك الصراعات جميعها. في هذا المقال القصير، سألقي الضوء على لحظات من النص، تكشف بدورها عن اضطراب ليلى –باعتبارها شخصيته الرئيسية- إبان إصرارها على التضحية بنفسها في سبيل وطنها مصر وقتَ الاحتلال، وما كانَ لها من حاجز من تنميط اجتماعي ذكوري على كافة الصُعَّد، وما ينجم عن ذلك من تأثير التنميط النوعي في صراعها مع الحب، وأهمية اقتران حريتها بتحرير الوطن.

    من أهم ما يلفت الانتباه ويثير في النفس التساؤل ما يحمله عنوان الرواية من دَلالة "الباب المفتوح". فأيُ باب يُعنى؟ ولماذا هو مفتوح دون إغلاق مُحكَم؟ إِنَّ للباب في هذه الرواية إشارة مجازية إلى حرية التصرف التي تمتلكها المرأة بالسجية، والتي عادة ما تُحجَب عنها بغير ضرورة تُذكَر من قِبَل مجتمعها. وهو بالضِدِ مُغلَق حتى يُفتَح على مصراعيه، وانغلاقه بيد الرجل لا محالة، في حين تفتحه المرأة بقوة عندما تمسك بمقبضه وتشدُ بجانبيه وتكسره. "ارجعى يا ليلى. الباب قريب، ازحفي لغاية الباب.

وازداد صوته نعومة وهو يهمس:

-إنت ست ما حدش حيلومك، ودا مش مكانك! [الزيات 437]. قدْ يُلحَظُ من أسلوب عصام لكنته الآمرة؛ كي يُثني ليلى عن المضي قُدمًا في المشاركة الإيجابية لمقاومة العدو، وأهمية تلك اللكنة تتجسد في المكانة الفائقة للرجل على المرأة، بما يتيح للمرأة نفسها، كما عند ليلى، أن تخضع للوقوف عند الباب دون فتحه. إضافة إلى ذلك، لا يعدو التأكيد على عدم لوم ليلى أمرًا نابعًا من عصام باعتباره رجلًا، وإطلاق عدم اللوم "محدش هيلومك" يجعل منه إقرارًا مصيريًا لسلوك المرأة، مع الأخذ في الحسبان علاقة الحب التي كانت تجمع بين ليلى وعصام. إِنَّ علاقة الحب لا تحمل في طياتها صنفًا معينًا من التنميط السلوكي للمرأة فحسب، بل ما يلبث أن يؤثر على المرأة نفسها؛ فيؤدي ذلك إلى اضطراب ليلى بالبحث عن هويتها المزدوجة بين الانتماء إلى أعراف مجتمعها من جانب، وولائها المخلص لوطنها والدفاع عنه من جانب آخر. ولا يتوقف ذلكم الصد غير المبرر عند عصام حيث الحب الرومانسي، وإِنَّما يمتد ليشمل أخاها محمود الذي كان بمنزلة العائق بالنسبة إليها وسناء زوجته. "إحنا حنرجع للمناقشة دي تاني! قلت لكم حتعطلونا حت زحمونا

البنت إللي عايزة تخدم صحيح تسيب البلد للرجالة". [الزيات 421]. إِنَّ المناقشة في هذا الصدد لموقوفة على الرجل، فهو الذي يحدد مسارَها، ويبين ملامحها، وينتهي إلى نتائجها دون المرأة؛ فما الرجل بالذي يُهزَم أو يُعقَدُ له سياق جدلي يسير وفقه؛ ما يشير إشارة واضحة صريحة لا ريبَ فيها إلى أَنَّ خروج ليلى في سبيل مقاومة أعداء بلدها لموقوفٌ على استئذان عنصر من الذكور يمثله أخوها، بغض الطرف عن عِظَم ما فيه تستأذن، والذي يُتوقَع أن تمضي فيه وحدها ما دامت فيه راغبة. إضافة إلى ذلك، قصر مسؤولية حماية البلد على الرجال دون النساء يمثل إقصاءً للنساء ودَلالة على تنميط اجتماعي للمرأة، لا يحمل في طياته مبررًا، تمامًا كما عند عصام حين أشار إلى عدم اللوم. على صعيد آخر، تجسد سناء حالة من صراع الزوجة التي تعبر عن الضعف الأنثوي؛ حيث الخضوع المطلق دون التعبير عن قمعها. ولَمَّا أن كان الأصل في العلاقات الإنسانية المشاركة المتبادلة، لا سيما علاقة الزواج، فإِنَّ محاولة تقديم طرف على آخر يعني ضرورةً انتهاكًا لهذا العمق الإنساني. "ونظرت إليه سناء في عتاب والدموع تلمع في عينيها.. منذ أن

تزوجا قاسمته كل دقيقة من حياته، كل انفعالة وكل تجربة، فلماذا

يريد أن ينفيها أن يعزلها؟" [الزيات 423]. على الرغم من أَنَّ ليلى وسناء يجمع بينهما رغبة عارمة في حق الدفاع عن وطنهما ضد أعدائه، مانعًا إياهما عن ذلك زوج وأخ يمثلهما شخص واحد، فإِنَّ ردة الفعل التي تنطلق من أعماق كل منهما لمتباينة أشد التباين؛ فليلى ستمضي في صراع مع هويتها التي شكلها مجتمعها متمثلًا في أبيها وأخيها وعصام، محاولة أن تلم شتات نفسها ومحفزها في ذلك حميتها على وطنها. أَمّا سناء: فستخضع وستلتزم الخنوع التام الذي لا ينجم عنه سوى أسئلة عن دوافع ظلم محمود إياها، دون أن تواجه محمودًا بمشاعرها، على أدنى تقدير، أو تقرر حريتها بنفسها كما فعلت ليلى.

    لقدْ أخذ صراع ليلى يتضخم وينمو مذ أن عيق بينها وبين الهدف الأسمى في نفسها، وهو الدفاع عن وطنها أثناء مقاومة الاحتلال؛ ما جعل شوكتها تقوى في سبيل اقتحام قواعد التنميط الاجتماعي تُجاه جنسها. غير أَنَّ هذه القوة -في الأصل- ضعفٌ تحسبهُ أعدى أعدائها وأخطرهم على الإطلاق؛ فبالانتصار عليه تُهزَمُ سائر الأعداء من نيل حريتها وامتلاك إرادتها باعتبارها امرأة لا واصي على أفعالها ولا محرك لها. "لا، ليس هو الموت الذي يخيفها

ولا العدو الذي يستتر خلف سور المطار.. إن عدوها الرئيسي يرقد

هناء في أعماقها: ضعفها". [الزيات 435]. وكانت الخطوة الأولى في سبيل القضاء على ذلك الصراع أو التخفيف من حدته لحظة أن امتنعت عن السفر، دون أن تبالي برأي محمود. إِنَّها اللحظة التي محت شعور محمود الحتمي بإقرارها ما تفعله، وإِلَّا فلا يصلح سلوكًا لها باعتبارها امرأة تابعة له. والنص يكشف أيضًا عن اختزال علاقة الأخوة في ذلك الاستئذان البطريركي الذي يسلب من المرأة استقلاليتها؛ فكأنَّها صدمة وقعت كالصاعقة على نفس محمود، اضطرَت إليها ليلى لأجل بلدها. “وشعر محمود بالألم: لقد نظرت إليه وكأنها لا تعرفه: وكأنها

لا تنتمي إليه وكأنه ليس أخاها". [الزيات 431]. على الرغم من وجود النسوة في أرض المقاومة يشكلن دورًا فيها، فإِنَّ ليلى تحلم بأَن تهزم العدو وجهًا لوجه، لا عن طريق التمريض وتخفيف آلام الجرحى حتى إبان إصابتها بالجرح. "ستعيش لترى العدو يتراجع نهائيً من بور سعيد، ستكرس العمر كله

لو اقتضى الأمر ‏ لتراه وهو يتراجع أمامها أمامها هي". [الزيات، 445]. ويكأَنَّ التأكيد على أَنَّها المنوط بها أن تنتصر على العدو المحتل أمرٌ مغاير لزعم محمود حين عَدَّ مسؤولية حماية البلد مقصورًا على الرجال دون النساء. ويكأَنَّهُ أيضًا يعكس ذلك اللوم الذي ينفيه عصام عن إصابتها به إذا لم تفعل ما تبغي.

    في هذا الجو المليء بالتعارض السلوكي بسبب جنس ليلى، والذي شكلَّ في داخلها صراع التعرف على هويتها في إطار رغبتها في تحرير بلدها، فإِنَّ حسين هو الرجل الوحيد الذي زودها بكل ما تحتاجه من دعم وإيمان بقدراتها؛ إذ الأب ضربها والأخ وقف عثرة في طريقها نحو بلوغ هدفها الوطني المنشود، وعصام حبيبها الذي مات ميتة مادية استبدلتْهُ بآخر، وميتة معنوية تماثل هدم التمثال حتى آخر خلاياه، حيث استبدلتها بمعاني أخرى أكثر دعمًا لها. "وهي الآن تنتفض واقفة تنفض عن نفسها التراب؛ وحسين يقول: عارفة

حتلاقي إيه؟ حتلاقي نفسك. ليلى الحقيقية". [الزيات 443]. وعلى الرغم من نشوء علاقة رومانسية بين ليلى وحسين جمعتهما رغبة واحدة في القضاء على الاحتلال، فإِنَّ الهدف الأساسي عند ليلى يتمثل في الدفاع عن الوطن، حتى لو كان الرجل داعمًا مساندًا مزودًا إياها بحريتها التي ترنو إليها. ولقد ظهر ذلك جليًّا في إيثار مقاومة الدورية الإنجليزية التي ظهرت بغتة عندما كانا في غفوة جنسية يعتريها تقبيل بدني، دون العناية بخاتم الخطوبة. "وارتطمت يد ليلى بالنافذة وهي تعيد الستار إلى مكانه: واحتك الخاتم الذهبي بالزجاج محدثًا رنينا وبسطت ليلى يدها وهي تنظر

في استغراب إلى خاتم الخطوبة، وكأنها كانت قد نسيت أنه يحتل

إصبعها". [الزيات 453]. إِنَّ الحرية التي ترغب في نيلها ليلى لمقرونة بحرية الوطن، ويكأَنَّها علاقة طردية لا يُراعى في سبيل تعزيزها سوى أهمها وأثمنها.

    وجملة القول أَنَّ صورة المرأة في النص تنم عن كفاح ليلى مع القيود الاجتماعية التي تحيط بها، غير أَنَّ هذا الكفاح مقرون بتحرير بلدها؛ ما ينم عن علاقة مجازية بديعة بين الوطن والقمع النسائي، فالوطن محاط بالمحتلين، والمرأة يحيطها محتلوها أيضًا من القامعين.

 

المراجع:

[الزيات، لطيفة. "الباب المفتوح". [الكرمة]. [2015].