وزير الاتصالات السعودي يستعرض جهود المملكة في تشكيل عصر الذكاء الاصطناعي - الهرم المصرى نيوز

 

بقلم/ احمد السيد جاب الله 

بعد انتهاء المعارك، يجلس كل طرف ليحصي خسائره، وينظر في أرباحه، ويفكر بعمق فيما حدث، ويراجع حساباته، ويبدأ تحقيقاته في أسباب ما حدث، وهل كان بالإمكان تجنبه، ومعاقبة من يستحق العقاب، ومكافأة من يستحق المكافأة، واستخلاص الدروس والعبر وتحويلها إلى استراتيجيات وخطط وبرامج.

هكذا تفعل الدول والأنظمة التي تتحلى بروح المسؤولية، والتي بها رأي عام يُسائل، وأجهزة مستقلة تراقب، وقضاء يُحاكم. أما أن تندلع الحرب ويحدث فيها ما يحدث من فظائع، ثم تسكت المدافع وتخمد النيران ويعود كل شيء إلى سيرته الأولى، فهذه وصفة ناجعة لتكرار الفشل والهزيمة.

في الحرب التي شنتها إسرائيل على إيران يوم الثالث عشر من يونيو الجاري، وانتهت اليوم الرابع والعشرين منه، ما الذي يمكن قوله كجردة حساب لكل الأطراف التي اشتركت في الحرب وتلك التي كانت معنيّة بها، وما الدروس المستفادة لهم، ولنا، وللعالم أجمع؟

إسرائيليًّا،

ظهرت إسرائيل بمظهر الدولة التي تمتلك سلاح طيران قويًّا وحديثًا، وقادرًا على توجيه الضربات للأعداء في أماكن بعيدة.

كما أظهرت قدرات عالية في مجال الاختراق الأمني للعدو، ومعرفة أدق أسراره، ومكامن قوّته ونقاط ضعفه، واستهدافه في أكثر المناطق حساسية وأهمية، سواء عبر التكنولوجيا أو من خلال العامل البشري.

لدى إسرائيل بنية تحتية لمواجهة أوقات الخطر ليست متوفرة لغيرها من البلدان، مثل الغرف المحصّنة، وشبكة صفارات الإنذار، وتدريب السكان على كيفية التصرف في أوقات الطوارئ، مما قلّل الخسائر إلى حدّ كبير، فيما لو لم تكن تلك الاستعدادات متوفرة.

اختبرت إسرائيل أكثر من مرة حلفاءها الأساسيين، وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأميركية وإنجلترا وألمانيا وفرنسا، ووجدتهم على أتمّ الاستعداد - بخاصة الولايات المتحدة - لتقديم كافة أنواع الدعم الذي يؤثّر في سير المعارك، وعدم الاكتفاء بالأقوال؛ فقدموا لها السلاح والتكنولوجيا والمعلومات والذخيرة والقنابل والطائرات والمال والسند السياسي والإعلامي، كأخلص ما يكون الحليف لحليفه.

تبيّن لإسرائيل أنها، من دون الدعم الخارجي القوي والمستمر ومتعدد الأوجه - سابق الذكر - دولة ضعيفة قابلة للهزيمة، لا تستطيع الصمود في معركة مع عدو قويّ لوقت طويل؛ فلا قدراتها الذاتية تمكّنها من ذلك، ولا شعبها مهيّأ للصبر والتحمّل طويل المدى كغيره من عديد الشعوب الأخرى.

اتضح رسوخ قدم الديمقراطية في إسرائيل، فحتى خلال المعارك كان لديها إعلام فيه تعددية في الآراء، وقوة في الطرح، وكل فريق يدافع عن وجهة نظره بالحجج والأسانيد، دون تردد أو خنوع أو خوف أو تزلف أو نفاق، ما جعلها تستفيد من عقول أبنائها وخبراتهم وثقافاتهم وتجاربهم في تعميق الفهم وبلورة المواقف والسياسات.

اتضح لإسرائيل أن أغلب شعوب العالم تكره أفعالها التي بالغت في الانتقام، وتحتقر هذه الشخصية المنطوية على كل هذا القدر من الرغبة في القتل والتدمير من دون حساب لطفل أو شيخ أو امرأة، ما جعلها رديف مصّاصي الدماء في أفلام الرعب، فازداد العالم منها اشمئزازًا، وحفرت لها صورة مقززة في الذاكرة من الصعب تغييرها في المستقبل، وتأكد للعقلاء والحكماء من الإسرائيليين أنهم ألدّ أعداء أنفسهم، وبأن هذه الروح السوداء المسيطرة عليهم، لو استمرت دون تغيير، فستكون سببًا في هلاكهم.

إيرانيًّا،

أما بالنسبة لإيران، فإن الحرب كشفت عن نقاط قوة وضعف كثيرة، من أبرزها:

أن الاعتماد على النفس في تصنيع السلاح وامتلاك أدوات القوة هو خير استثمار، وأنه هو الدرع الحامي للشعب والبلاد، فلولا الصواريخ المتطورة، على سبيل المثال، ما أوقفت إسرائيل النار، ولاستمرت في سحق قدرات ومقدرات إيران، ولانتقلت من خانة الهزيمة إلى الإمعان في الانتقام والإذلال.

ثبت أن البنية العسكرية بحاجة إلى بنية تعليمية وبحثية كبيرة ومترسخة ومتطورة، وأنه من دون امتلاك المعرفة تظل البلاد رهينة للخارج في كل صغيرة وكبيرة، وتأكد أن ثروتها من الباحثين والخبراء في مجال واحد من مجالات القدرات العسكرية، كالبرنامج النووي، والبالغ تعدادهم قرابة عشرين ألف باحث وخبير، هم ثروة لا تُقدّر بثمن، وأن بمقدورهم إعادة إنتاج ما دمرته الحرب، رغم كل الصعوبات، طالما أن العقول التي صنعته من قبل لا تزال موجودة.

اتضح أهمية الحفاظ على السمات الأصيلة في الشخصية، بعد أن توحّد الشعب الإيراني على اختلاف توجهاته السياسية خلف بلده، ونسوا خلافاتهم مع النظام في وقت الخطر الوجودي الذي تعرّضت له بلادهم، وتأكد أن ذلك لم يكن ليحدث لولا درجة عالية من الوعي، وأن من الخطورة البالغة تجريف الوعي المجتمعي، وتحويل المجتمع إلى مجموعات من السطحيين التافهين المغيّبين الذين يسهل التلاعب بأدمغتهم. كما تأكدت أهمية بناء الشخصية على معاني العزة والتضحية والكرامة وعدم القبول بالإذعان والهوان، كما ظهر ذلك من ارتفاع معدل الراغبين في امتلاك سلاح الردع النووي، وعدم الاستسلام لإسرائيل وأميركا والغرب في هذا المجال؛ فالإيرانيون، رجالًا ونساءً، ليسوا من النوع الخنوع الذي يقبل الضيم ويستجيب للإكراه، وأنهم مستعدون للتضحية في سبيل تلك المعاني والقيم.

ثبت لإيران، من خلال هذه الحرب، أن أغلب الشعوب العربية - باستثناءات قليلة - لا تضمر لها العداء كما كانت تتصور، وأنها كانت في حزن شديد لما أصابها، وكانت تفرح لكل صاروخ يطلقونه على عدوهما المشترك. هذا الرصيد من الاحترام الذي أظهرته الشعوب العربية للشعب الإيراني بحاجة إلى استثمار بطريقة مختلفة، ليس من بينها دعم الجماعات والأنظمة التي تعمل ضد مصالح وأمن واستقرار هذه الشعوب، وأن بناء القوة الإقليمية لإيران يمكن، بل يجب، أن يُبنى على التعاون مع الدول والشعوب العربية، وليس على الهيمنة والتدخل في شؤونها، ودعم الجماعات الخارجة عن سلطة الدولة مهما كانت الشعارات التي ترفعها.

أوضحت الحرب أن حلفاء إيران من الروس والصينيين لا يُعوَّل عليهم وقت الخطر، وأن الصديق إن لم تظهر مساندته وقت الشدائد فيمكن تسميته بأي شيء آخر غير اسم صديق أو حليف، أو إن شئت الدقة فقل: إن لكل صديق سقفًا لا يمكنه تجاوزه في تقديم ما يمكنه تقديمه من مساعدة، هذا السقف مرتبط بمصالحه هو قبل غيره، وبتقديراته هو للمخاطر والعواقب، وإنه من المهم معرفة ذلك، وعدم توقّع ما هو أبعد مما يستطيع هؤلاء تقديمه حتى وقت المصاعب والأزمات.

ثبت لإيران أن قطاعاتها الأمنية مخترقة وأمنها مستباح، وأن بعض ذلك راجع لجماعات معارضة منذ سنوات لم تستطع البلاد احتواءها، وبعضها راجع إلى ضعاف النفوس الذين جنّدهم العدو، وبعضها بسبب التكنولوجيا المتقدمة القادرة على التتبع والتجسس، وتأكد أن هذه الثغرات كلفت البلاد الثمن الباهظ من قيادات الصف الأول وخيرة العلماء، وأن ترك هذه الثغرات سنوات دون علاج كان إهمالًا جسيمًا يحتاج إلى تحقيق ومحاسبة وتغيير جذري.

تأكدت إيران أنه من دون دفاعات جوية متطورة تنكشف سماؤها وتفقد سيادتها الجوية، ويصبح أي مكان فيها هدفًا سهل المنال، وأن ضعف الاستثمار العلمي والتكنولوجي والصناعي في هذا المجال كان كارثة على البلاد.

ثبت أن التحسّب للاحتمالات يقلّل الخسائر، كما تبين ذلك من توزيع المفاعلات على أماكن متباعدة، واختيار أماكن لها في جبال محصّنة، ولولا تدخّل أميركا بقدراتها الخارقة، لما استطاعت إسرائيل القضاء المُبرم على المنشآت النووية؛ فالأخذ بالأحوط والتحسّب لكل الاحتمالات في هذه النقطة تحديدًا كان من حسن التصرف.

وهكذا…

دروس وعبر كثيرة لا يسع المقام لحصرها، ولكن العاقل هو من اتّعظ بغيره، وأخذ من يومه درسًا لغده.