صحة الشرقية: زيارة إشرافية من المراجعة الفنية والإكلينيكية لمستشفى الصالحية الجديدة المركزي - الهرم المصرى نيوز

 

بقلم : هالة فؤاد

لم تنطق كلمة، لم تقدر على التحرك، ولا حتى مجرد الالتفات عندما شعرت فجأة بكتف ذلك الرجل الذي يجلس جوارها في (سيارة الأجرة) وهو يحاول الاحتكاك بها للمرة الثانية، وذلك بعد أن تجاهلته المرة الأولى بعدما أقنعت نفسها أنه لم يتعمد فعل هذا، صارت ضربات قلبها تتسارع، حتى شعرت أنها تصم أذنيها وتشوش على عقلها الذي تحاول أن تسيطر عليه لتفكر سريعا، ربما عليها فقط أن تتحدث إليه بأدب وتطلب منه أن يبتعد قليلا، ولكن كيف هذا ؟ مؤكد أنه يعرف أنها تعرف أنها ليست المرة الأولى، ربما شعر من حديثها أنها ضعيفة، ستحاول إذن أن تنهره ليتراجع، ولكن من الممكن أن يرد عليها بتبجح ويتظاهر بأنه لم يقصد، ويعنفها أمام الجميع على سوء ظنها، ولن تجني حينها سوى نظرات اللوم من كل من في العربة، وهذا سيشعرها بخجل مضاعف.. يا الله..لا تستطيع التفكير مطلقا، تشعر أن عقلها قد أصابه الشلل، فهي لم تتعرض لموقف مثل هذا من قبل، تريد أن تلتقط أنفاسها أو حتى أن تبتلع ريقها، ولكن يبدو أن حتى هذا      الأمر البسيط لا يستطيع عقلها إرسال إشارة به وهو في هذه الحالة، كيف سيكون شكل هذا الكائن الذي تسبب لها في كل تلك الضجة بداخلها ؟

 كم تخشى حتى النظر إليه، فعقلها راح يصور لها أنه وحش قد استطاع بلمسة واحدة أن يشل كل عصب في جسدها، ويقتلع كل لحظات الأمان التي شعرت بها طوال حياتها بلحظة، إنه لص من أشر أنواع اللصوص وأكثرها قسوة وخطورة، فإنه ليس كأي لص آخر يستحل ممتلكات الغير؛ بل إنه يسرق من الجسد نفسه، يسرق من الروح كل مشاعر الطمأنينة دفعة واحدة ويزرع مكانها مشاعر مؤلمة تظل ندوبها تملأ الروح ويصعب شفاؤها .

فقد كان هذا أول يوم لها لاستلام عملها، العمل الذي طالما حلمت به، كان الحماس يملؤها لكي تثبت أنها إمرأة ناضجة قادرة على التعامل مع سوق العمل بصعوباته، ولكن أي مقدرة كانت تعتقد أنها تملكها وهي مشلولة الحركة الآن بينما تتم سرقتها بدم بارد ولا تستطيع أن تأخذ أي ردة فعل، لم يسرق منها ذلك الوغد فقط لمسة عابرة ترضي شهوته اللعينة، بل سرق منها كل مشاعر الأمان، وجعلها تنظر لمستقبلها نظرة مختلفة تماما يملؤها الخوف ..

استطاعت أخيرا أن تستجمع كل ماتبقى لديها من قوة، وابتعدت عنه قليلا لتلتصق بالسيدة التي تجلس جوارها على الجانب الآخر، وما إن تحركت حتى تحرك فورا هو الآخر، والتصق بها مرة أخرى بشكل أكثر جرأة، لم يعد مجالا للشك إذن في سوء نيته، لقد قرأ كل ضعفها، شعرت بحسرة شديدة فيبدو أن أوان أن تأخذ ردة فعل قد فات؛ فسكوتها في المرة الأولى والمرة الثانية جعلها تعطيه الأمان ليكمل فعلته بثقة، لقد سلب منها أمانها ليأمن هو، وكل هذا في لحظات معدودة، الغريب أنها شعرت أنها تستقل تلك العربة منذ سنوات، رغم أن المسافة لاتتعدى بضع دقائق، تشعر أن دهرا كاملا قد مر عليها هنا..

 وهنا..توقفت السيارة أخيرا.. وسمعت صوت السائق، وهو يهتف ..

_ (اللي نازل الميدان)

سمعت صوته كأنه سجان يعطي الأمر  للجلاد بأن يكف عن جلدها، بعد أن صار جسدها ممزقا من أثر سياطه اللعينة التي شعرت بها مع كل لمسة شيطانية اخترقت جسدها، تمكنت من النزول من العربة وكل شيء بداخلها قد صار مختلفا تماما عن وقت صعودها، تحاشت النظر خلفها، وسارت ببطء وهي تخفض رأسها بانكسار، وهنا رأت أحدهم يسير على مقربة منها، ويهمس بالقرب من أذنها قائلا بتهكم وهو يكمل سيره.. 

_ (يا خسارة، الطريق خلص بسرعة ياقمر)

لم تكن تتوقع يوما أن تكون لديها رغبة في القتل من قبل، تود أن تركض خلفه وتصرخ بكل قوتها لقد سرقني ذلك اللص، ولكنها لم تستطع حتى النظر ناحيته من بين دموعها التي ملأت عينيها، إنها حقا أذنبت في حق نفسها ذنبا كبيرا، لقد سرق السارق سرقته ونجا وانتهى الأمر، والأدهى أنه تشفى فيها ومضى ببساطة، ولن تأخذ حقها منه أبدا، ولن تستعيد منه ماسرق طوال حياتها، راحت تمسح دموعها، فليس أمامها الآن سوى محاولة نسيان ماحدث ولو بشكل مؤقت، لتستطيع أن تذهب لاستلام عملها، راحت تهون على نفسها بأنها على كل حال لن ترى ذلك اللص مرة ثانية، وإن رآها فمؤكد أنه لن يتذكرها، تعرف أنها تفكر بطريقة سلبية، ولكن ليس أمامها الأن خيارا آخر، فقد وصلت إلى مقر الشركة، وعليها ركن كل مشاعرها جانبا لكي تحاول أن تلملم شتاتها لكي لاتخسر عملها التي سعت كثيرا للحصول عليه، إقتربت من البوابة الحديدية وأخرجت ورق قبولها وبطاقة هويتها لتعطيهم ل(رجل الأمن) ليسمح لها بالدخول، وقبل أن تنطق بحرف، رأته ! نعم.. إنه هو نفسه، ذلك اللص، كان يقف إلى جوار موظف الأمن الذي نظر لورقها وقال لها مشيرا لذلك الرجل ..

_ ده (أستاذ كامل) مدير القسم اللي حضرتك فيه يا أستاذة، هاتروحي معاه وهو هيوصلك لمكتبك ويفهمك كل حاجة .

نظرت إليه، فبادلها بنظرة خبيثة وهو يبتسم إبتسامة لم تر أوقح منها من قبل، لم تخفض رأسها، ولم تتحاشى النظر إليه هذه المرة، فهي تستحق أن ترى نظرة التشفي هذه في عينيه، تستحق شعور الندم الذي ينهش قلبها    الآن، استمرت في النظر إليه نظرة طويلة بعيون باهتة تعجز عن رسم أي تعبير متجاهلة صوت (رجل الأمن) الذي راح ينادي عليها مرارا 

_ أستاذة.. فيه حاجة ؟! يا أستاذة.. يا أستاذة .

لم ترد، ثم قامت بإعادة أوراقها داخل حقيبتها، واستدارت وخرجت من الشركة دون كلمة..ودون نية للرجوع، ليس للوظيفة فحسب، بل الرجوع لنفسها القديمة، والرجوع لنظرتها السليمة للعالم كله .