أطال - الهرم المصرى نيوز

 

 بقلم ا. ايمان سلامه 

في ظل التطور التكنولوجي السريع، يواجه العديد من الأسر تحديات في تحقيق التوازن بين استخدام الهواتف الذكية والحفاظ على تماسك العلاقات الأسرية. وبينما تركز الكثير من النقاشات على الجوانب السلبية لاستخدام الهواتف، فإن معالجة هذه الظاهرة تتطلب رؤية أكثر شمولية تأخذ في الاعتبار العوامل النفسية والاجتماعية والثقافية بدلاً من اختزال المشكلة في مجرد "إدمان" رقمي.

لا يرتبط تعلق المراهقين بالهواتف بمجرد التفاعل مع الجهاز نفسه، بل ينبع من احتياجات نفسية واجتماعية أعمق. إذ تُظهر الدراسات أن نسبة كبيرة من المراهقين يجدون في الهواتف وسيلة للشعور بالانتماء من خلال مجموعات الأصدقاء على وسائل التواصل الاجتماعي، بينما يلجأ البعض إليها للهروب من الضغوط الدراسية أو العائلية، في حين يستخدمها آخرون كوسيلة لاكتشاف معلومات جديدة وتعزيز فضولهم المعرفي. وفقًا لدراسة نُشرت في مجلة علم النفس التنموي عام 2022، فإن 68% من المراهقين يعتبرون المنصات الرقمية مساحةً يجدون فيها القبول الاجتماعي، خاصةً من يشعرون بالعزلة في الحياة الواقعية. كما أشار بحث من جامعة ستانفورد إلى أن 43% من المراهقين يعتمدون على الألعاب الإلكترونية كآلية للتكيف مع القلق والتوتر. ومن ناحية أخرى، تُظهر بيانات منظمة اليونيسف أن أكثر من نصف المراهقين يستخدمون الهواتف للوصول إلى محتوى تعليمي، مما يدل على أن التكنولوجيا يمكن أن تكون ذات قيمة إيجابية إذا أُحسن استخدامها.

العلاقة بين جودة التواصل الأسري واستخدام الهواتف الذكية معقدة ولا يمكن تفسيرها بارتباط سببي مباشر. فقد أظهرت دراسة أجرتها جامعة ميتشيغان على 1200 مراهق أن أولئك الذين يعانون من الاكتئاب يميلون إلى قضاء وقت أطول على الهواتف، حتى لو كانت علاقاتهم الأسرية جيدة، مما يشير إلى أن المشكلة قد تكون أكثر تعقيدًا من مجرد غياب التواصل العائلي. في المقابل، يشير بحث من جامعة كامبريدج إلى أن التكنولوجيا قد تسهم في تقوية الروابط الأسرية عندما يتم استخدامها كأداة مشتركة، مثل اللعب الجماعي أو متابعة المحتوى التعليمي معًا.

بدلًا من الاكتفاء بالنصائح التقليدية مثل "تحديد وقت استخدام الهاتف"، فإن الحل يكمن في تطوير استراتيجيات تركز على تحسين العلاقة بين الآباء وأبنائهم. من بين هذه الاستراتيجيات تعزيز التواصل الفعال من خلال تخصيص وقت يومي للحوار دون نقد، حيث أثبتت تجارب تطبيق "الخمس دقائق الذهبية" أن مجرد الإنصات للمراهق دون مقاطعة قد يكون له أثر كبير في تقوية العلاقة. يمكن للآباء أيضًا محاولة فهم عالم أبنائهم الرقمي والانخراط فيه، إما من خلال تجربة الألعاب التي يحبونها، أو مشاهدة محتوى معهم لمناقشته لاحقًا، مما يسهم في خلق مساحة تفاعلية مشتركة. كما أن تشجيع البدائل الواقعية مثل ممارسة الرياضة أو الفنون، أو حتى تخصيص وقت لأنشطة جماعية، يمكن أن يساعد في تقليل اعتماد المراهق على الهاتف. إحدى التجارب الناجحة كانت في مدرسة فنلندية طبقت برنامج "ساعة بدون شاشات" أسبوعيًا، حيث تم توفير أنشطة بديلة مثل الرسم والرياضة، مما أدى إلى انخفاض استخدام الهواتف بنسبة 32% خلال ستة أشهر فقط.

إحدى الأدوات الفعالة التي يمكن أن تساعد في تحقيق التوازن هي تعزيز التفكير النقدي لدى المراهقين فيما يتعلق باستخدام التكنولوجيا، وذلك من خلال إجراء نقاشات حول أنماط استخدامهم للهاتف واستخدام تطبيقات مثل "Screen Time" لتحليل مقدار الوقت الذي يقضونه أمام الشاشة. وبدلاً من فرض القيود القسرية، يمكن أن يكون الهدف هو تمكين المراهق من اتخاذ قرارات أكثر وعياً بشأن كيفية استخدامه للتكنولوجيا.

ورغم أهمية هذه الحلول، إلا أن هناك تحديات تحول دون تطبيقها بنفس الفعالية في جميع البيئات الأسرية. تختلف استجابة المراهقين وفقًا لشخصياتهم، فقد لا تنفع الاستراتيجيات ذاتها مع مراهق انطوائي مقارنةً بآخر أكثر انفتاحًا. كما أن الضغوط الاقتصادية والاجتماعية تجعل من الصعب على بعض الأسر تخصيص وقت كافٍ لبناء تواصل قوي مع أبنائها. إضافةً إلى ذلك، فإن التطور المستمر للتكنولوجيا، وظهور تقنيات جديدة مثل الواقع الافتراضي والذكاء الاصطناعي، قد يزيد من الفجوة بين الأجيال إذا لم يبذل الآباء جهدًا لمواكبة هذه التغيرات.

بدلاً من تصوير التكنولوجيا كتهديد للعلاقات الأسرية، يمكن استغلالها كأداة لتعزيز الترابط الأسري من خلال استخدامها بشكل هادف ومدروس. يمكن لمؤسسات التعليم والمجتمع المدني أن تلعب دورًا رئيسيًا في مساعدة الأسر على تبني استراتيجيات رقمية متوازنة، سواء عبر ورش عمل تثقيفية للآباء حول أساليب التربية الرقمية، أو من خلال تطوير برامج مدرسية تعزز التفاعل الإيجابي بين الطلاب وأولياء أمورهم في البيئة الرقمية. كما أن هناك حاجة إلى المزيد من الدراسات التي تستكشف تأثير التكنولوجيا في سياقات ثقافية متنوعة، لفهم الفروق في استخدام الهواتف بين المجتمعات الفردية والجماعية، كما أشار عالم الاجتماع "مانويل كاستيلز" في أبحاثه حول تأثير الشبكات الرقمية على التفاعل الاجتماعي.

لا يكمن الحل في فرض رقابة صارمة على استخدام الهواتف، بل في بناء بيئة أسرية يشعر فيها المراهق بالفهم والانتماء، مما يقلل من حاجته للهروب إلى العالم الافتراضي. بدلاً من مقاومة التكنولوجيا، يمكن توظيفها بذكاء لتعزيز الروابط الأسرية، بحيث تصبح جزءًا من حياة متوازنة بدلاً من أن تكون عائقًا أمامها.