"التنمر" /الهرم المصرى نيوز

 

بقلم "سمر موسى"

في أحد أروقة إحدى المشافي الخاصة بجراحة أورام الدماغ في ألمانيا، يحلس رجل في بداية الثلاثينيات على أحد المقاعد الحديدية الموجودة في الرواق المؤدي إلى غرفة العمليات، ينتظر بفارغ الصبر خروج الجراح الذي يُجري جراحة دقيقة لزوجته القابعة بتلك الغرفة. شرد بذهنه إلى الماضي، ليس ماضي بعيد؛ فقط ثلاثون يومًا.

كانت تقود سيارتها دون وجهة محددة، دموعها تسيل كالمطر الجارف على وجنتيها، تلك الفتاة ذات الخمسٌ وعشرون ربيعًا صاحبة العينان الخضراوان وخصال الشعر السوداء التي تتطاير خلفها وبشرتها البيضاء ذات الحمرة المحببة، إنها "شادن" وريثة ورئيسة أكبر مجموعة شركات للمقاولات في الشرق الأوسط، منذ قليل اكتشفت أنه يجب عليها إجراء جراحة حتى تستطيع الاستمرار في تلك الحياة وإلا قد تخسر حياتها؛ أخبرها الطبيب أنه لديها ورم في الدماغ معروف ب"الورم الدبقي" وهو نوع من أنواع أورام الدماغ الأولية، وهو شديد الخطورة وليس هناك علاج له سوى إجراء جراحة لإزالته ويجب أن تتم بأقصى سرعة حتى تتجنب ما قد يحدثه هذا الورم من أضرار.

"شادن" فتاة تحب الحياة، مرحة، لديها كثير من الأحلام التي تريد تحقيقها، ومن ضمن تلك الأحلام "يوسف"، كبير المهندسين لديها في الشركة، فبالرغم من صغر عمره إلا أنه استحق هذا المنصب وبجدارة نظرًا لعمله الدؤوب وإخلاصه وأمانته، هي تحبه بل تعشقه وهو لا يبالي لها، يتعامل معها برسمية شديدة، ليس معها فقط هو هكذا مع جميع الفتيات الموجودات بالعمل ولا أحد يعلم السبب.

مسحت دموعها وضغط بيديها على مقود السيارة وهي تُحدث نفسها بصوت مرتفع:

-سوف أفعل ما يحلو لي في تلك الأيام الثلاثين، لن أرحل عن تلك الحياة دون الزواج منك يوسف، سوف ترى.

في صباح اليوم التالي ولجت "شادن" إلى مكتبها بعد أن طلبت من السكرتيرة الخاصة بها أن تخبر "يوسف" أنها تريده في مكتبها. خمس دقائق مرت لتسمع صوت طرقات على باب مكتبها لتسمح للطارق بالدخول والذي لم يكن سوى "يوسف" الجالس أمامها الآن ينتظرها أن تتفوه بما تريده منه؛ وعندما طال صمتها لم يجد سوى أن يتحدث هو قائلًا:

- آنسة "شادن"، ماذا هناك؟ لماذا طلبتِ رؤيتي؟!

كانت لا تعلم كيف تبدأ حديثها، نهضت من مقعدها ثم وقفت تنظر إلى نهر النيل من خلال النافذة الزجاجية التي بمكتبها وهي عاقدة ذراعيها أمامها، زفرت الهواء بقوة ثم تحدثت بجدية:

- أعلم أن ما سوف أطلبه منك هو الجنون بحد ذاته، لكن رجاءً لا تحكم على الأمر من الكلمة الأولى، استمع لنهاية حديثي ثم فكر وأخبرني بقرارك.

أخبرته عن مرضها وحبها له، حتى أنها طلبت منه أن يتزوجها؛ فهي وحيدة في تلك الحياة لا يوجد لديها عائلة، والديها قد توفيا وليس لديها أشقاء أو شقيقات، هي تريده زوجًا وحبيبًا، تريده سندًا لها وظهرًا قويًا يُعينها عما هي مُقدمة عليه، تريده وريثًا لها إن لم تخرج من تلك الجراحة بسلام، تريد أن تقضي معه ثلاثون يوم حياة وسعادة قبل أن تُقدم على إجراء الجراحة. أخبرته بكل هذا وهي ناظرة من تلك النافذة ولا ترى ملامح وجهه التي غزاها الألم، لم ترَ دموع الحسرة التي تكورت في عينيه، تلك الذكريات التي غزت عقله عن حبيبته الأولى والوحيدة التي توفيت بسبب ذلك المرض اللعين تعتصر قلبه ألمًا، حبيبته التي أقسم أنه لن ينبض قلبه لغيرها، أصابته نوبة بكاء شديدة بدا فيها كطفل صغير فقد أمه ويرثيها ببكائه التفتت على إثرها "شادن" بعينين جاحظتين بسبب ما تراه أمامها من انهياره هذا.

هرعت إليه وقلبها وجل لا تعلم ما الذي أصابه، وأنى لها أن علم وهي لا تعرف عنه كثير من الأشياء بالرغم من حبه لها؟! جثت أمامه على ركبتيها بعد أن أحضرت كوب من الماء ووضعته أمام شفتيه تخبره أن يرتشف بعضًا منه وأن يهدأ قليلًا. نظر إليها بعينين قرأت بهما كثير من الحزن والوجع لتتعجب من حاله هذا؛ أيعقل أن يكون يحبها هو الآخر ولهذا أصبح حاله هكذا؟! سألته عما يحدث معه؛ ليجيبها بما حطم قلبها، أخبرها عن حبيبته الأولى والأخيرة، وكيف ماتت قبل زفافهما بشهرٍ واحدٍ بسبب ذات المرض الذي تُعاني هي منه، أخبرها أنه ليس على استعداد أن يمر بنفس التجربة مرة أخرى فهو ما زال يحصد ثمار التجربة الأولى التي مر عليها عامان لكنه لا يستطيع النسيان؛ وهنا علمت جيدًا سبب جفاؤه ولا مبالاته مع الفتيات ومعها، لكنها لن تستلم بسهولة؛ فهي معروف عنها كم هي عنيدة وتحصل على مبتغاها، ومبتغاها هنا ليس صفقة أو شيء ما تريده، لا ما تبتغيه الآن وتسعى إليه حبها وسعادتها، هو حبيبها الذي عزمت على الحصول عليه حتى لو ماتت، لكن أولًا لتساعده على تخطي موت حبيبته الأولى حتى يستطيع أن يراها كحبيبة وزوجة؛ علها تخرج من تلك الجراحة سالمة ويستمرا في حياتهما معًا بسعادة.

"شادن" وهي تحتضن كفه بكفيها الصغيرين:

- "يوسف"، أنت تعلم أنني وحيدة؛ ليس لي أحد في هذه الحياة سوى الله وسواك، أجل أنا أحبك، بل أعشقك؛ لهذا طلبت هذا منك، أنا أعلم أنه من الصعب تلبية طلبي هذا خاصةً بعدما أخبرتني به، لكن فكر جيدًا، ألا يمكن أن يكون الله أرسلني إليك حتى تخرج من حالتك تلك؟! ألا يمكن أن أكون أنا عوض الله لك وتكون أنت عوض الله لي؟! نحن نعلم جيدًا أن وراء كل بلاء عوض من الله يجعلنا ننسى كل ما مضى من حزن وألم، فكر هكذا في الأمر ولا تخف؛ إن الله رؤوفٌ رحيمٌ بالعباد، فكر جيدًا وسوف أنتظر قرارك بالغد؛ تعلم ليس لدي كثيرٌ من الوقت.

أنهت حديثها لتترك يده وتقف تنظر له بابتسامة جميلة بينما هو ينظر إليها بتعجب من منطقها وتحليلها للأمر بتلك الطريقة. رحل من الشركة بعد أن طلبت منه أن يأخذ بقية اليوم إجازة حتى يرتاح ويفكر جيدًا فيما أخبرته به، وها هو يجلس في شرفة منزله بيده فنجان من القهوة لا يدري كم يكون؛ فهو منذ عودته إلى منزله وهو على هذا الحال، يصنع القهوة أو الشاي ويحتسي ما يصنعه شاردًا بينما يواصل شرب سجائره البنية الرفيعة التي ما إن تنتهي واحدة يلحقها بالأخرى وهو يفكر بحديثها الذي لاقى صداه في عقله وقليلًا من قلبه ليحسم قراره بهذا الشأن.