تهنئة خاصة من إدراة الجريدة إلي مقدم شرطة : صلاح الرصاص بمناسبة توليه المنصب الجديد بشرطة السياحة والآثار - الهرم المصرى نيوز

 

بقلم / سارة الجندي

كان عمو كريم صديق والدي إيهاب يعشق المَزادات، وبالرَّغم من عمله المرموق في وزارة الرياضة، فإنه كان دائمَ البحث عنها والاستمتاع بحضورها؛ فهو يرى أنها الوسيلةُ الوحيدة لاقتناء ما يُسميه بالتُّحف والآثار بطريقةٍ قانونية وآمنةٍ، فكان يسعى للحصول على أيِّ قطعةٍ تُبهره ولو بسيطة. 

وفي يوم الأربعاء، أي قبل يوم عيد ميلادي السَّابع عشر بيومٍ واحد، فاجأنا عمو كريم بشرائه قطةً من أحد المزادات.. نعم، قطة تتميزُ بلونها الرَّمادي، وعيونها الواسعة الجاحظة قليلًا، وبطء حركتها. ذكَّرتني بمقالٍ قرأته صباحًا عن القطط الفرعونية. وفي ذلك اليوم كانت تزورنا طنط أمل صديقة والدتي ندى للاحتفال معنا غدًا بعيد مولدي، وعادةً عندما تزورنا تمكثُ في منزلنا يومين أو ثلاثة أيامٍ. 

طنط أمل سيدةٌ أنيقة تهتمُّ بمظهرها إلى أبعد الحدود؛ تستطيع أن تميز وجودها في أيِّ مكان من رائحة عِطرها المُميز، على عكس والدتي التي توقفت عن النَّظر إلى المرآة بعد تركها العمل؛ فقد كانت طبيبة نساءٍ في أحد المُستشفيات، وبعد وفاة إحدى السَّيدات، فقدت أمي رُوحها المرِحة وأصبحت كتلةً من الصمت. 

عمو كريم بسعادة: كل سنة وانتَ طيب يا يوسف. الحمد لله المزاد رسي عليا النهاردة وفُزت بالقطة الجميلة دي، وهي دي هديتي ليك السنادي.

أبي: قطة في مزاد! عِشنا وشُفنا! بس تسلم إيدك يا كريم.. هدية غريبة.. و.. وجميلة.

عمو كريم: انتَ عارفني يا إيهاب بعشق المزادات والتحف. فاكر أول مرة اتقابلنا.. كنت عاوز احجز سفر لمزاد وقابلتك في الشركة.

أبي: طبعًا فاكر، وكنت مستغربك جدًّا. كل مرة أقابلك بتحجز تذكرة سفر أسألك: مسافر ليه؟ تقولي: هحضر مزاد!! 

أمي: كلفت نفسك ليه؟ أنا أعرف إن المزادات أسعارها بتكون عالية شوية.

عمو كريم: مش مهم دفعت كام، المهم إني أنا اللي خدتها. انتو عارفين القطة دي عاشت قد إيه؟ ولا كانت على أيام مين؟ دي كانت في قصر قديم، بس الحكومة حجزت عليه. بيقولوا عليها قطة مبروكة، وعمرها طويل. 

ثم نظر إليَّ وسألني: المهم انتَ يا يوسف رأيك إيه في القطة؟ 

أنا: مش عارف. بس لما شُفتها خفت وقلبي اتقبض منها.

أبي: لا يا حبيبي متخافش، دي مجرد قطة، والمفروض تشكر عمو الأول. 

أنا: شكرًا يا عمو كريم.

عمو كريم: العفو يا حبيبي. عقبال مليون سنة. 

طنط أمل ظلت صامتةً. اكتفت بالصمت والنظر إلى القطة. والقطةُ أيضًا كانت تبادلها النظرات.

مرَّ اليوم الأول ببطءٍ شديد، وأنا أرى أن القطة تُحملق في طنط أمل، وأقول لنفسي: "لا، أكيد أنا بيتهيألي". 

في أولِ الليل استيقظتُ فزعًا من نومي على سماع صوت خُطوات أقدامٍ وصوت غريب يبدو كشخصٍ يتهامس. خرجتُ من غرفتي ودقَّات قلبي تعلو وتتزايد، والهمس يتلاشى رويدًا رويدًا، وبوصولي للصالة لم أجد أيَّ شيءٍ، ولا حتى القطة. فجأةً انقطع النور ثم عاد في ثوانٍ.. والقطة موجودة!!

أكيدٌ أنا مرهق ولم آخُذ كفايتي من النوم بعد. 

لم أستطع الحركة، لكنني قاومتُ حتى دخلت غرفتي وغلبني النعاس سريعًا، ثم صحوتُ على صوت أمِّي: لا إله إلا الله، لا إله إلا الله.

هرولتُ مسرعًا إلى الصالة نحوَ صوتها، فسمعتُ أبي: لا حولَ ولا قوةَ إلا بالله، يعني هي جاية تحضر عيد ميلاد يوسف فتموت عندنا! 

أنا: مين دي اللي ماتت؟ معقول طنط أمل؟! 

أبحث بعيوني فأجدُها جالسةً ساكنة على الكرسي، والدمُ يسيل من يديها، وأمي بجوارها منهارةٌ من الحزن والبكاء. 

وجاءت عربة الإسعاف ونقلوا جُثمانها إلى المستشفى، وخيَّم على منزلنا الحُزن والفجع والصمت.. فهذا اليوم عيد مولدي. 

وجاءت سيارة الشرطة لمُعاينة الشَّقة، وسمعتُ الضابط يتحدث إلى والدي.. 

الضابط: أستاذ إيهاب، قولي بالتفصيل. تعرفوا المرحومة منين؟ 

أبي: صديقة زوجتي من أيام الدراسة. هي كانت عايشة هنا في القاهرة قبل ما ينقلوا ويعيشوا في الإسكندرية.

الضابط: وليه كانت بايتة عندكو.

أبي: زي ما قلت لحضرتك، هي من مدينة الإسكندرية، وكانت جاية تحضر عيد ميلاد ابني يوسف، والمفروض كنا هنبدأ تجهيز الحفلة من الصبح. حضرتك عارف تجهيزات عيد الميلاد.. بلالين وتورتة وغيره، فالأحسن إنها تبات علشان تكون معانا. 

الضابط: يبدو كدة إنها حالة انتحار. متعرفش انتحرت ليه؟ يعني كان عندها مشاكل أسرية أو غيرها؟ سمعت من زوجتك إنها اتعرضت لمشاكل تخلِّيها تفكر تنتحر؟ وليه انتحرت عندكو بالذات؟ 

أبي: بالعكس، إحنا اتصدمنا جدًّا. هي كانت عايشة في مشاكل أسرية بسبب زوجها بقالها سنين، واتطلقت منه من كام شهر، وحياتها بقت أحسن دلوقتي، يعني صعب تفكر في الانتحار بعد ما حياتها اتحسنت.

الضابط: طب يا ريت تيجي القسم وتجيب المدام بكرة أو بعده علشان نقفل المحضر، وأهي تكون حالتها النفسية اتحسنت شوية بعد الصدمة الكبيرة دي. 

الضابط ما كانش يعرف إن أبي وأمي كانوا شبه متفقين على الانفصال، من ساعة ما اتُّهم أبي في قضية رشوة ورُفد من عمله؛ فأبي كان أمين خزنة في إحدى شركات السفر، والأهم من ذلك شعور أمي بامرأةٍ أخرى في حياة أبي، ومن ثم زاد الجفاء بينهما. 

حياتي كئيبةٌ بائسة. كثيرًا ما فكرتُ في الانتحار رغم صغر سني. ليس لي أصدقاء. هذا أبي مُرتشٍ وخائن، وهذه أمي الزوجة الضعيفة التي لم تعاتب زوجها على قَبوله الرشوة، بل صدَّقته عندما أقسم ببراءته.. مسلوبة الإرادة، كلما احتجتُ إليها لا أجدها. 

حفلة عيد ميلادي ما هي إلا تعويضٌ لي عن خُططهم للفترة القادمة، وكنتُ أعلم أن أبي كان متفقًا مع طنط أمل على الزواج بمجرَّد طلاقه لأمي التي لم تكن تعلم باتفاقهما. 

اتصلت جدَّتي تخبرنا بقدومها، لكن أمي لم تستطع أن تردَّ عليها، بينما أبي أخبرها بما حدث وألَّا تُتعب نفسها بالمجيء. 

أنا أكره حياتي معهما. أريد العيش مع جدَّتي لأمي. هي منبع العطف والحنان بالنسبة لي. 

كلنا يبدو علينا الفاجعة والحُزن إلا القطة، التي كان يبدو على ملامح وجهها الابتسام. نظراتُ عيونها اللامعة، وحركتها الخفيفة، على عكس ما رأيتها عليه أول مرةٍ.

وجاء الليل، وأمي لم تستطع الكلام ولا حتى تناول ا