محافظ الغربية يستجيب لإستغاثة مرضى الغسيل الكلوي ببسيون… وتشغيل القسم بمستشفى صدر بسيون قريبًا/الهرم المصرى نيوز

 

بقلم: د. هبة حماد – أخصائي تأهيل نفسي

داخل كلٍّ منا يعيش طفل—ليس بالمعنى الحرفي، بل كشخصية داخلية تختزن الذكريات، المشاعر، والاحتياجات التي تشكّلت في سنوات الطفولة الأولى. هذه البُنية النفسية تعرف لدى علماء النفس باسم «الطفل الداخلي» (Inner Child)، وهي تؤثر بشدّة في طريقة شعورنا، تفكيرنا، وتصرفاتنا في مختلف مراحل حياتنا. في هذا المقال سنعرّف الطفل الداخلي، نعرض كيف يؤثر على سلوك البالغين، نحدد علامات وجود مشكلة، ونفسّر لماذا نعود أحيانًا للتصرّف كما لو كنا أطفالًا.

ما هو «الطفل الداخلي»؟ تعريف مبسّط

الطفل الداخلي هو مجموعة الصور، الذكريات، المشاعر، والاحتياجات التي بقيت محفوظة داخل نفس الإنسان منذ سنواته الأولى. هو الشخص العاطفي الذي شعر، خاف، أحب، وجرح. ليس المقصود به أن الإنسان «لا يزال طفلاً» من الناحية العقلية، بل أن تجاربه الطفولية—خاصةً المؤلمة—تستمر في تشكيل ردود فعله الداخلية. يمكن أن يكون هذا الطفل مصدرًا للحسّ الإبداعي والبراءة، أو مصدرًا للألم والأنماط المدمّرة إن لم يتم الاعتناء به.

كيف يؤثر الطفل الداخلي علينا كبالغين؟

1. المشاعر المتواترة والمفاجئة: قد نشعر بحزن عميق أو غضب مبالغ فيه لمواقف تبدو «صغيرة» منطقيًا، لأن الطفل الداخلي يعيد إحياء جروحًا سابقة.

2. أنماط التعلق والعلاقات: تجارب الطفولة مع الأب أو الأم تشكّل توقّعاتنا حول الأمان والحب. طفلٌ لم يشعر بالأمان قد ينجذب إلى علاقات توكسية أو يخشى الاندماج.

3. التحرّك من الدفاع بدل النمو: بدلاً من مواجهة الخوف بطريقة ناضجة، قد نلجأ إلى سلوكيات دفاعية طفولية—صراخ، انسحاب، أو تمسّك مفرط—حين نتعرّض للضغط.

4. قرارات مهنية وشخصية مُلتبسة: أحيانًا نحاول تعويض نقصٍ حدث في الطفولة عبر تحقيق نجاح مبالغ فيه، أو اختيار شركاء يكرّرون ديناميكيات قديمة.

5. الصحة الجسدية والنفسية: الكبت والضغط العاطفي المتكرر قد يتحوّلان إلى أرق، صداع، أو اضطرابات جسدية أخرى.

لماذا يظل الطفل الداخلي «ذاكرًا» لصدمات الطفولة؟

الطفولة مرحلة تشكل الأساس العاطفي للإنسان. الدماغ النامي يسجل التجارب العاطفية بعمق؛ تجارب الخوف، الرفض، أو الإهمال تُخزّن كأنماط تلقائية. هذه الأنماط تهدف في الأصل للحماية—مثلاً: إذا أهملني الآخرون في صغري، فسأكون يقظًا لاحقًا حتى لا أتعرض للأذى مجددًا. لكن عند استمرار هذه الآليات دون معالجة، تصبح ردودًا متكرّرة لا تتناسب مع الواقع الراهن.

لماذا يتصرّف البالغون أحيانًا كأنهم أطفال؟ تفسير وظيفي ونفسي

1. الحاجة إلى الاهتمام الفوري: الطفل الداخلي يسعى لملء احتياجاته القديمة؛ في موقفٍ يذكّره بالشعور بالوحدة أو الرفض، قد نطلب الاهتمام بطريقة طفولية.

2. الفشل في تنظيم المشاعر: قدرة تنظيم الانفعالات تتطور مع الدعم والتعلّم؛ غياب هذا التدريب في الطفولة يجعل التحكم بالمشاعر صعبًا لدى الكبار.

3. استراتيجيات التأقلم القديمة: صراخ، بكاء مفرط، أو انسحاب صامت كانت طرقًا ناجحة للبقاء عاطفيًا لدى الطفل؛ وقد تتكرر تلك الأساليب عند البالغين تحت الضغط.

4. العودة إلى نمط مألوف: في الخلافات، العقل يبحث عن ما هو مألوف؛ إن كان السلوك الطفولي قد أثبت فعاليته سابقًا—حتى لو كانت نتيجته سيئة—فقد يُعاد استخدامه.

علامات تدلّ على أن الطفل الداخلي يعاني ويؤثر سلبًا في حياتنا

- تُهيمن ردود فعلٍ مبالغ فيها (غضب شديد، بكاء مستمر) على مواقف يومية.

- شعور دائم بالرفض أو الخوف من التخلي دون سبب واضح منطقيًا.

- التعلّق بعلاقات مُستنفِدة أو الابتعاد التام عن العلاقات القريبة.

- صعوبة في وضع حدود صحية والنضج العاطفي في حل الصراعات.

- محاولة تعويض نقص داخلي عبر سلوكيات مفرطة (عمل مفرط، أكل مفرط، إنفاق مبالغ).

- أنماط متكررة من الفشل في العلاقات أو العمل دون فهم السبب الحقيقي.

إن وُجدت عدة من هذه العلامات بشكل مستمر، فذلك مؤشر قوي أن الطفل الداخلي بحاجة للاهتمام والعمل العلاجي.

ماذا نفعل؟ خطوات عملية للاعتناء بالطفل الداخلي

1. الاعتراف: أول خطوة هي أن نعترف بوجود طفل جريح داخلنا دون حكم. الاعتراف يفتح الطريق للتغيير.

2. التأمل والكتابة: تدوين الذكريات والمشاعر يساعد على ربط الحاضر بالماضي وفهم مصدر ردود الفعل.

3. الحدود والاحتياجات: تعلّم تحديد الاحتياجات وإيصالها بوضوح بدلاً من التصرّف بطرق سلبية.

4. الشفاء التدريجي: العلاج النفسي (مثل العلاج المعرفي السلوكي، العلاج بالتعاطف مع الذات، أو العلاج الديناميكي) يساعد في إعادة بناء أنماط علاقة صحية مع الذات والآخرين.

5. ممارسة التعاطف الذاتي: معاملة النفس بلطف—كما نحب أن نرى طفلًا يُعامل—تخفف من الضغط وتمنح الطفل الداخلي أمانًا جديدًا.

الطفل الداخلي ليس خصمًا؛ هو جزء مننا يحمل ذكريات وألمًا لكنه أيضًا حامل للبراءة والقدرة على التجدد. عندما نتعلم الاستماع إليه، تأمينه، والعمل على شفاء جراحه، نتحول من تكرار الأنماط القديمة إلى اختيار حياة أكثر وعيًا ونضجًا. لا يعني هذا أن ننسى الماضي، بل أن نمنح طفلنا الداخلي الحاضر الذي لم يحظَ به في زمنه: الأمان، التقدير، والاحتواء.