النجاح - الهرم المصرى نيوز

 

✍ بقلم: محمد زهران

🌟 المقدمة: حين نطقت الحروف

ليستَ اللغةُ أداةَ تواصلٍ فحسب، بل كائنٌ يتنفّس في عروقِ الأمم... من نساها، نَزف هويّته، ومن أهملها، دفن نفسه حيًّا في مقبرةِ الصمت.

اللغةُ العربية ليست كلمات تُكتب، بل شجرةٌ ضاربةٌ في عمق الزمان، أوراقها من الوحي، وجذورها في الأزل، وثمارها لا تنضب أبدًا.

في كلّ حرفٍ نبض، وفي كل جملة صدى معجزة. هي ليست لغة، بل معجزة تمشي على الأرض.

تأمّل: هل رأيت يومًا لغةً تُصلّي؟ تُقاتل؟ تبكي وتفرح؟ إنّها العربيّة... إذا سمعها حجرٌ لان، وإذا نطقها مَن ضلَّ، اهتدى.

وهنا تبدأ الحكاية...

ليست خيالًا، وليست تاريخًا، بل نبوءة قديمة تنتظر من يوقظها.

إن كنتَ تظنّ أن اللغة قد ماتت، فاقرأ هذه السطور... فقد يكون لسانك هو المفتاح.

---

الفصل الأول: صرخة من الماضي

في زمنٍ ليس ببعيد ولا قريب، كانت اللغة العربية الفصحى لا تزال كما هي، شامخة، محفوظة، لا تنام ولا تموت. لكنها كانت تُهمل، تُنسى، ويُستبدل بها ما دونها.

قال سليم وهو يقلب صفحات كتاب النحو: "أين ذهبت هيبة هذه اللغة؟"

جاءه الجواب من داخل الجدار الحجريّ: "لم تذهب... أنتم من غفلتم."

"أيها اللسان... من سينطقك؟"

هكذا نُقشت العبارة على الجدار. وعندما قرأها، شعر بشيء داخله يهتز، وكأن الكلمات نادته باسمه. اقترب من الجدار، فبدأت الحروف تتوهج، تتنفس.

همس: "هذا... حي! هذا ليس نقشًا عاديًا!"

فجأة، انشقَّ الجدار، وابتلع سليم في دوامة ضوء هائلة، لا تحمل زمنًا ولا مكانًا... وحين فتح عينيه، وجد نفسه في مدينة لا تشبه الحاضر، ولا تنتمي للماضي... مدينة ناطقة بالفصحى.

---

الفصل الثاني: مدينة اللغة

فتح سليم عينيه على مدينة بديعة البناء، ذات أعمدة شاهقة كُتبت عليها آيات من القرآن الكريم ، وأبيات من الشعر ، وأرضية منقوشة بالأفعال، والمجاز، والبلاغة.

كل من فيها يتحدث بالفصحى دون تكلّف، فهي لغتهم الفطرية. أطفال، شيوخ، تجار، جنود... الكل ينطق لسانًا عربيًا فصيحًا كأنه جُبل عليه.

اقترب منه شيخ وقور، وجهه يفيض نورًا، وقال: "مرحبًا بك في لُغتنا... مدينة النحو، حيث لا تموت الكلمة، ولا تُنسى البلاغة."

سليم: "كيف وصلتُ إلى هنا؟ وما هذه المدينة؟"

قال الشيخ: "أنت أحد الحُرّاس المختارين... حراس اللسان. أُتيت من زمن نسوا فيه أصوات الكلمات، فجئنا بك لتحفظها."

ثم أشار إلى السماء: كانت الحروف تلمع كنُجوم، وكأن اللغة هنا لها روح تتنفس من صدور الناس.

سليم نظر إلى الجدار وسأل: "لكن لماذا الفصحى؟ أليست لغة ميتة كما يقولون؟"

ابتسم الشيخ وقال: "يا بني، اللغة لا تموت، بل أهلها من يغفلون عنها. هي قائمة، محفوظة، لكنها تنتظر من يراها كما هي، لا من يُهملها."

ثم تابع: "هذه اللغة حيّة لأن الله وعد بحفظها حين قال: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}. والقرآن نزل بها، فصلّى بها النبي، وبها خُطب في بدر، وبها كتب الشعراء، وجاهد المجاهدون. هل تموت لغة صلّى بها نبي؟"

---

الفصل الثالث: حراس اللسان

في هذه المدينة، يعيش من تبقى من "حراس اللغة"، رجال ونساء حفظوا أسرار العربية منذ قرون. كل جيل يُختار منه شاب من عالمنا، ليحمل الرسالة: أن يُذكّر الناس بأن العربية لا تموت.

سليم التحق بمجلس الحراس، حيث رأى علماء، شعراء، كُتّابًا من عصور مختلفة، كلهم ينطقون بالعربية وكأنهم أبناء وقت واحد.

قال له أحد الحراس: "يا سليم، هل تعلم أن العربية تملك أكثر من 12 مليون كلمة؟ بينما الإنجليزية لا تتجاوز 600 ألف؟"

اندهش سليم وقال: "لم أكن أعلم..."

أجابه الحارس: "ولكل كلمة ظلّ، ومعنى، وسياق. في العربية تقول: سيف، حسام، صارم، مهند... وفي اللغات الأخرى: فقط sword. هذه لغة تنبض، لا تُترجم... تُعاش."

ثم أضاف آخر: "قال الجاحظ: (البيان هو ترجمان يخرج لك المعاني من السر إلى العلانية)، والعربية أوسع لسان في البيان."

---

الفصل الرابع: معركة النسيان

لكن المدينة كانت مُحاصَرة من جيش صامت... جيش يُدعى "النسيان"، بقيادة كيان يُدعى "العامية المُهترئة"، يريد تدمير مدينة اللغة.

الجيش لا يهاجم بالسيوف، بل بالكسل، والاستهزاء، والتفاهة، والتشويه.

نزل الجنود الظلّيّون على أطراف المدينة، يحملون في أيديهم شاشات وهواتف تبث العامية المسطحة، والكلمات المكسّرة، واللهجات الركيكة.

سليم: "كيف نقاتل هذا النوع من الغزو؟"

قالت فتاة من الحراس تُدعى سلمى: "بالكلمة، وبالقلم، وبالصوت. كل من يكتب بالفصحى أو ينطق بها، يرسل لنا طاقة تقوينا. نحن لا نحمل سيوفًا، بل نحمل النصوص!"

وقال شيخ: "قال ابن تيمية: (اعلم أن اعتياد اللغة يؤثر في العقل والخلق والدين تأثيرًا قويًّا)، فمن هان عليه لسانه، خفّت عليه هويّته."

---

الفصل الخامس: اللسان لا يموت

أثناء المعركة، كاد الحراس أن يُهزموا. بدأ النسيان يتسرب إلى حروف المدينة، تتحول الكلمات إلى ضباب، وتتآكل الجمل كأنها مصابة بالصدأ.

سليم تذكّر عبارة الجدار: "أيها اللسان... من سينطقك؟"

فصرخ من أعماق قلبه:

> "أنا ناطقك، أنا صوتك، أنا ابنك... لن تموت ما دمنا نؤمن أنك حياة!"

حينها، أضاءت المدينة، واشتعلت الحروف في السماء كنجوم، وتحوّلت الكلمة إلى سيف، والمعنى إلى درع.

انهزم النسيان... وتنفّست الفصحى من جديد.

---

الفصل السادس: مجلس الخالدين

في إحدى زوايا المدينة العجيبة، دلّ الحراس سليم على سرداب مخفيّ تحت دار النحو، لم يُفتح منذ قرون. قال له الشيخ: "فيه حكماء من القدماء، يُقال إنهم لم يموتوا، بل خُزِن علمهم في هيئة أرواح لغوية، لا تُرى إلا لمن صدق في حب اللسان."

دخل سليم السرداب بخطوات مترددة، والحروف تُنير الجدران كلما مرّ بجانبها. كانت جدران المكان مزينة بشواهد نحوية، وأمثلة من "الكتاب"، وأسماء أعلام: سيبويه، الخليل، ابن جني، الجاحظ...

وفي نهاية الطريق، وجد قاعة واسعة، تتوهج وسطها منضدة مستديرة، جلس حولها أربعة رجال، وجوههم من نور، كأنما الزمان لم يمسهم.

تقدّم أحدهم، وقال: "مرحبًا بك يا سليم... نحن مجلس الخالدين."

قال سليم مندهشًا: "سيبويه!؟"

ابتسم وقال: "وأنا الخليل بن أحمد. وهذا ابن جني، وهذا أبو عثمان عمرو بن بحر، الجاحظ."

جثا سليم احترامًا، وقال: "أيّ شرف هذا... أن أكون في حضرة من أحيا اللغة وحرّك سكونها!"

قال الخليل وهو يمسح لحيته الكثيفة: "لقد وضعت معجمي الأول –العين– لأكشف أسرار الحروف. لا تبدأ اللغة بالكلمة، بل بالصوت. هل تعلم أن ترتيب المعجم يبدأ من عُمق الحلق؟ ع، ح، هـ... ثم يصعد حتى يصل الشفتين؟"

قال ابن جني بصوت حازم: "والصوت سرّ اللسان يا بني. فإن ضاع النطق، ضاع النحو. وها نحن نراك في زمنٍ لم يعد فيه الناس يميّزون بين الضاد والظاء."

قال الجاحظ وهو يضحك ضحكة هادئة: "لو قُدّر لي أن أكتب الآن، لقلت: إن من لم يعرف العربية، ضلّ في عقله قبل لسانه. ألم أقل في البيان والتبيين: (اللغة بيان العقل، وإذا ضعف البيان، ضعف الفكر)؟"

سليم: "ولكن يا سادتي... الناس يفرّون من النحو، ويظنون العربية معقدة."

قال سيبويه: "بل هم من تعقدت ألسنتهم بالهوان، لا اللغة. أتعلم أنني حين كتبت (الكتاب)، لم أضع فيه الحركات؟ لأنه لمن يتذوق المعنى، لا يحتاج حبلًا يجرّه."

قال الخليل: "والعربية لا تكرر نفسها، ففي كل لفظ مرادف، وفي كل اشتقاق إعجاز. من كلمة (عَلِم) اشتُقّ: علّام، عالِم، معلومة، تعليم، إعلام... وكلها تختلف بدقة."

أخذ الجاحظ الورقة من يد سليم، وقال له: "يا فتى، العربية لا تُحيا في الكتب فقط، بل على ألسنتكم. لا تهجروها بحجّة الحداثة، فإن أقوى الأمم هي التي تتكلم بلسانها لا بلسان غيرها."

اقترب سيبويه من سليم، ووضع يده على كتفه وقال:

> "اللغة لا تموت، لكنها تختبئ خلف الصمت. وأنت صوتها الآن."

خرج سليم من مجلس الخالدين، وقلبه يضج بأصواتهم، كل حرف صار له وجه، وكل قاعدة صار لها روح. وكان يعلم أن هذه اللقاءات لم تكن إلا تمهيدًا لمعركة أخرى...

---

الفصل السابع: العودة

استيقظ سليم في مكتبته، والكتاب القديم في يده، كأن شيئًا لم يحدث. لكنه وجد قلادة نقش عليها: "اللسان لا يموت."

خرج إلى الناس، فبدأ يتحدث في الإذاعة، ويكتب المقالات، ويعلم الأطفال...

لكنه في الحقيقة كان شيئًا أعظم:

> كان رسول اللسان، ناقل نبض لغةٍ ما زالت حيّة، في كل قلبٍ نطقها بإخلاص.

قال لتلاميذه يومًا:

"العربية يا أبنائي، ليست لغة قوم، بل لغة زمن. هي لغة الخلود، لأنها لم تأتِ من بشر، بل سكنت كلام الله... فكيف تموت؟"

ثم أخرج الكتاب القديم، وقال لهم:

"قال مصطفى صادق الرافعي: (ما ذلّت لغة شعبٍ إلا ذلّ، ولا انحطّت إلا كان أمره في ذهابٍ وإدبار)، فإياكم أن تفرطوا في لسانكم... فهو أنفُس ما تملكون."

---

النهاية

> "اللغة ليست كلمات... إنها وطنٌ يُقيم داخل اللسان، ومن خانه لفظًا... خانه قلبًا."