العلاقات المصرية الليبية.. تاريخ من الدم والمصير المشترك - الهرم المصرى نيوز

بقلم الدكتورة بسمة محمد السيد حمودة 

دكتورة جامعية كلية الاقتصاد المنزلي جامعة العريش 

هناك لحظات تمرُّ في العمر ليست عظيمة، لكنها مربكة حد التوهان. لحظات تستفيق فيها من نومك، لا شوقًا إلى النهار، ولا انتظارًا لشيء، بل فقط لأن النوم فرّ من عينيك. تتحرك بجسدٍ أثقل مما تحتمل، وكأن روحك تُساق لا تمضي، تُؤدّي أدوارك اليومية بلا حماسة، بلا معنى، بلاك أنت.

تمضي في الحياة كأنك ضيفٌ على يومك، تردّ التحية، وتضحك، وتُنجز، وتبدو للناس طبيعيًا، لكنك تعرف أن الداخل ليس كما يراه أحد. في قلبك صوت يصرخ: أنا لست بخير… ولكن لا صوت يُسمع. الشعور غريب… ليس حزنًا يُبكَى عليه، ولا يأسًا واضح الملامح، بل فوضى مكتومة، تراكمات صغيرة تسكن الصدر وتخنقه، شعورٌ بالتيه وكأنك تبحث عن شيءٍ لا تعرفه، وربما تبحث عنك.

تشتاق إلى نفسك القديمة، تلك النسخة التي كانت تعرف ما تريد، تفرح بلا خوف، تحزن بلا خجل، تحيا بقلبٍ يقظ. والآن، كل شيء رمادي. الأيام تتشابه، الوجوه تمرّ، الكلمات تُقال بلا أثر، وكل لحظة تمرّ كأنها انسحاب هادئ من الحياة. تضحك أحيانًا لأنك لا تريد أن تثير قلق أحد، وتتكلّم لأن الصمت يقلقهم، لكن لا أحد يقترب كفاية ليسأل: كيف حالك حقًا؟ هل لازال قلبك على قيد الأمل؟

وحين تُحاصر من كل الجهات، يبدأ القلب في لوم نفسه: هل هذا البُعد عن الطمأنينة هو بُعد عن الله؟ وهل شعوري بالفراغ دليل ضعف في إيماني؟ وأسوأ ما قد يُصيب الإنسان هو أن يخلط بين الحزن والخذلان الإلهي. في تلك اللحظة تحديدًا، تتوه داخليًا أكثر، ويصبح الحزن مزيجًا من الشعور بالذنب والتعب والتوهان.

لكن الحقيقة التي يغفل عنها قلبك، أن الحزن ليس نقيضًا للإيمان. أن البكاء في خفاء الليل لا يُنقص من الثقة بالله، بل ربما يكون أصدق مظهرٍ للتسليم. إن سيدنا يعقوب حزن حتى ذهب بصره، وقال بصدق المحب المتعلق:

﴿إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ﴾،

والنبي محمد ﷺ ضاق صدره مما يُقال، فواساه ربه بقوله:

﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ﴾.

هؤلاء أنبياء، ولم يسلموا من الحزن… فكيف بمن هو دونهم؟

الله لا يُقصي الحزين، بل يحتضنه. لا يبتعد عن الموجوع، بل يقترب. هو الوحيد الذي يسمع الصوت الداخلي، ذاك الذي لا يُقال لأحد. الله وحده يعلم أنك تُقاتل وحدك، وأنك تتصنّع القوة وأنت تتمنى حضنًا لا يسأل، ونظرة لا تُدين، ويدًا تُربّت على قلبك دون كلمة. الله لا ينتظر منك بيانًا، يكفي أن تقول له في خلوتك: "يا رب، أنا مش قادر أكمل"، ويكفي أن تُسلم التعب كله في سجدة، حتى يبدأ الجبر.

ربما لا تتغير الظروف، وربما لا يعود الحنين، ولا تمتلئ الحياة بالأجوبة، لكن الطمأنينة تبدأ عندما تعرف أن الله لم يغب عنك يومًا، ولم يُهملك في لحظة. وأن هذا الوجع لم يكن عبثًا، بل طريقًا خفيًّا إلى يقينٍ أعمق، ونداءً صامتًا للرجوع. فاطمئن، وإن لم تكن بخير الآن… لأن الله يعلم، ويسمع، ويجبر.

ليست كل المشاعر صاخبة، بعض الأحاسيس تنمو في صمت، تتكاثر داخلنا كغيم ثقيل لا يُمطر. نفتح أعيننا في الصباح ولا نعرف لماذا ننهض، نمارس طقوس يومنا وكأننا نُترجم لغة لا نفهمها. شيء ما فينا انكسر، لا يُرى ولا يُسمع، لكنه يُثقِل كل شيء: الحركة، الكلام، حتى التنفس. نمضي كأننا نؤدي أدوارًا كُتبت لنا في غيابنا، نرد التحية، نضحك مجاملة، نُنجز المطلوب، وننسحب إلى وحدتنا في نهاية اليوم حاملين بين أضلعنا ما لا يُقال.

إنه التيه الذي لا يملك صاحبه كلمات، والفراغ الذي لا تملؤه تفاصيل. نشتاق إلى أنفسنا القديمة، إلى لحظة كنّا نضحك فيها دون أن نُفكّر، نفتح المصحف فنشعر بالدفء، ونستنشق رائحة الزرع كأنها عناق من زمنٍ مضى… ثم نعود إلى واقع باهت، رماديّ، يتكرر بلا جديد.

لكن رغم كل ما يعتمل في القلب من وجعٍ لا يُفسَّر، وتيهٍ لا تُحدّد له خريطة، يظل في الإنسان شُعاع لا ينطفئ… وإن خفت، وإن تراجع، فإنه ما زال هناك. ربما لا نملك الشرح، ولا نُجيد التعبير، وربما نخاف أن نُقال، أو أن نُفهم خطأ، أو أن نُفسَّر بغير قصد، لكننا نُحاول أن نعيش… نُحاول فقط.

وفي نهاية كل محاولة، يبقى الله.

يبقى حين لا يبقى سواه،

ويحنو حين لا يفهمنا أحد،

ويمسك أيدينا حتى وإن لم نطلب…

فقط لأنه يعلم.

ولأننا منه… وإليه.

تحياتي لكم الدكتورة بسمة محمد السيد حمودة