وزير الإسكان يعقد اجتماعًا تنسيقيًا لمتابعة آلية عمل وحدتي تنظيم السوق العقارية وتصدير العقار - الهرم المصرى نيوز

 

           

   كتبت / سارة سمير 

 أخصائية الصحة النفسية والعلاج بالفنون

في زمن يمضي فيه كل شيء بسرعة مذهلة، وتُثقلنا فيه الأخبار السيئة، والخسارات المتكررة، والضغوط اليومية المتراكمة، بات الإنسان يبحث عن ملجأ داخلي يحتمي فيه من ضجيج العالم وتقلّباته، ولم يعد هذا الملجأ خارجيًا كما كان يومًا ما، بل أصبح متعلقًا بقوة خفية تسكننا جميعًا، وإن اختلفت درجات حضورها بين شخص وآخر. تلك القوة تُعرف بالتفكير الإيجابي.

قد يُساء فهم هذا المفهوم كثيرًا، فيظنه البعض مجرد أوهام وردية أو محاولات للهروب من الواقع، بينما هو في جوهره أبعد ما يكون عن ذلك. التفكير الإيجابي ليس تجاهلًا للمعاناة، ولا إنكارًا للحقائق القاسية، بل هو فن إعادة تأطير الأحداث داخل النفس، بطريقة لا تسمح للألم أن يبتلع الإنسان، ولا لليأس أن يشل إرادته. هو القدرة على رؤية مساحة صغيرة من الضوء في أعمق نقطة من الظلام، والتمسك بها رغم كل ما يُقال وما يُظن وما يُتوقّع.

حين يختار الإنسان أن يُمارس التفكير الإيجابي، فهو لا يقول إن العالم مثالي، ولا يُقنع نفسه بأن الحياة خالية من الخسارات، بل يقول في قرارة نفسه: “رغم كل شيء… سأكمل”، “رغم كل ما فقدت، لا زال لدي ما أستحق أن أعيشه”، “رغم التعب… هناك شكر صغير يمكنني أن أقدمه لهذا اليوم”، وبهذا الصوت الهادئ، يُربّت على قلبه، ويُهدّئ فوضاه الداخلية.

لقد ثبت في دراسات نفسية كثيرة أن الأشخاص الذين يمتلكون نمطًا من التفكير الإيجابي، يكونون أكثر قدرة على الصمود في الأزمات، والتعافي من الصدمات، والتكيف مع الضغوط، بل ويعيشون عمرًا أطول في كثير من الأحيان. ليست المسألة سحرية، بل منطقية، فحين يؤمن الإنسان أن لكل ضيق نهاية، ولكل ليل فجر، فإنه يمنح نفسه فرصة للاستمرار، في حين يستسلم الآخر للتيه، فيغرق.

وقد يكون من أصدق صور التفكير الإيجابي أن يعترف الإنسان بمشاعره السلبية دون أن يجلد نفسه بسببها. أن يشعر بالحزن دون أن يشعر بالذنب، أن يتقبل فترات الضعف كجزء من إنسانيته، لا كدليل على الفشل. فالإيجابية لا تعني أن تبتسم طوال الوقت، بل أن تؤمن أن مرورك بالحزن لا يُلغي قيمتك، وأن ضعفك لا يعني نهايتك، وأنك تستحق أن تحب نفسك حتى وأنت في أسوأ حالاتك.

إن التفكير الإيجابي لا يعني أن العالم سيتغير فجأة، لكنه يعني أنك ستتغير، وبالتالي سيتغير شعورك بالعالم. وهذه النقطة بالتحديد هي جوهر كل تحوّل نفسي عميق. حين تبدأ في تغيير طريقة رؤيتك للأشياء، تبدأ في كسر تلك السلاسل غير المرئية التي كانت تقيّدك. فكلما غيّرت زاوية النظر، ظهرت لك تفاصيل جديدة لم تكن تراها من قبل. وكلما منحت نفسك فرصة لتفهم الأمور دون أن تحكم عليها، كلما خفّ الضغط الداخلي، وهدأت الروح.

وليس من السهل الوصول إلى هذا النمط من التفكير. هو نتاج تدريب عقلي، ووعي متنامٍ، وتجارب حياتية تركت في النفس ندوبًا جعلتها تبحث عن طريق آخر للنجاة. التفكير الإيجابي لا يُولد مع الإنسان، لكنه يُكتسب، وقد يتأخر ظهوره، لكن حضوره – ولو متأخرًا – يصنع فرقًا هائلًا في نوعية الحياة.

علينا أن نعلم أن اختيار التفكير الإيجابي لا يعني أن الإنسان لا يتألم، بل يعني أنه لا يسمح للألم أن يعرّفه. هو لا يضع تعريفه لذاته في يد الظروف، بل يحتفظ بشيء من حريته الداخلية مهما كانت القيود الخارجية. وربما كان هذا تحديدًا ما يحتاجه العالم الآن: أفرادٌ قادرون على تربية أنفسهم نفسيًا، على الاعتناء بأفكارهم كما يعتنون بأجسادهم، على الحديث مع ذواتهم بلغة فيها رحمة، لا قسوة.

في النهاية، لا أحد ينجو من الحياة بلا جراح، لكن من يختار أن يرى معنى في جراحه، هو من يملك مفاتيح الشفاء. والتفكير الإيجابي ليس إنكارًا للدموع، بل هو تلك اليد التي تمسحها بلطف، وتقول: “أنا معك، وسنواصل”. وهذا وحده يكفي ليصنع من الإنسان طاقة نور، حتى وإن كانت خطواته متعثرة، وصوته مكسور