صحة الشرقية: زيارة إشرافية من المراجعة الفنية والإكلينيكية لمستشفى الصالحية الجديدة المركزي - الهرم المصرى نيوز

بقلم / د. شفيع بالزين (تونس)

في سردية "ذاكرة للنسيان" يقول محمود درويش: "لمَ يُطالَبون بهذا القدْر من النسيان؟ ومَن هو القادر على تركيب ذاكرة جديدة لهم لا محتوى لها غيرُ ظل مكسور لحياة بعيدة في وعاء من صفيح صارخ؟ أهناك ما يكفي من النسيان كي ينسَوْا؟ [...] ومن سيساعدهم على النسيان في هذا القهر الذي لا يتوقف عن تذكريهم باغترابهم عن المكان؟ [...] مطالبون بأن يصفّقوا لقمعهم لأنه يوفر لهم نعمة الذاكرة وهكذا يُدفَع المطالَبُ بالنسيان أنه إنسان إلى قبول استثنائه من الحقوق ليتدرب على التحرر من داء نسيان الوطن" (ذاكرة للنسيان، 20-21).

ويقول في قصيدة " تُنسى كأنَّكَ لم تَكُنْ":

تُنسَى، كأنّكَ لم تكن

خبراً ولا أَثراً... وتُنْسى"

ويختمها بقوله: "فأشهد أَنني حيُّ وحُرُّ حين أُنْسَى"

وما يعبر عنه كلام محمود درويش نثرا وشعرا هو أن الفلسطيني يعيش مفارقة مأساوية استثنائية غيرَ مسبوقة لا مثيل لها في التاريخ الإنساني وهي أنه مطالب بالنسيان: نسيانِ ذاكرته وهويته ووطنه وإنسانيته كي يستطيع أن يعيش في وضع غير إنساني أو مجردا من إنسانيته ويتأقلم مع عالم ينكر عليه حتى ذاكرته، وحتى في هذه الحالة المستحيلة التي يتدرب عليها منذ عقود فإنه يُنسَى كأنه لم يكن. فهل هناك وضع مأساوي ولا إنساني أكثرُ من الوضع الفلسطيني؟ ولكن هل فعلا الذاكرةُ الفلسطينية هي ذاكرةٌ للنسيان؟ وهل صحيح أن الفلسطيني نُسي كأنه لم يكن؟

لا شك أن مأساة الفلسطيني أو قدره الدرامي أنّ المنظمة الصهيونية العنصرية قررت بتواطؤ مع الغرب الاستعماري أن تكون أرضه/وطنه أرضَ الميعاد والوطنَ القومي لليهود وأن يكون الشعب الفلسطيني ضحيةً كارثيةً لمقولة عدوانية هي "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"- ولم تكن فلسطين يوما أرضا بلا شعب ولم يكن اليهود يوما شعبا وبلا أرض" ولم تقم دولة على العرق والدين إلا كانت وبالا على الإنسانية- ولذلك أصيب الفلسطينيون بأفظع قوة احتلال واستيطان في التاريخ، واغتصَبَ أرضَه "شعبٌ" بلا ذاكرة اخترَعت له الصهيونيةُ ذاكرةً ملفَّقة مشوَّهة بائسَةً ودرّبته على نسيانٍ للذاكرة الطبيعية ليواجه- أو يلغي- شعبا ذاكرته للذاكرة غير أنه مطالب بذاكرةٍ للنسيان. وما لا شك فيه أيضا أن مأساة الفلسطيني أو قدره الدرامي أنه ينتمي لأمة مصابة بالنسيان أو لها ذاكرة متدربة على النسيان، ولذلك يطالبَ- أو يحبَّذ- الفلسطيني أن تكون ذاكرته للنسيان. وهكذا يعيش الفلسطيني صراعا ضد المحتل وصراعا ضد النسيان في مواجهة جحافل العدو الكثيرة و"في مواجهة قوافل النسيان الطويلة" (بعبارة درويش). 

نتساءل اليوم: هل الذاكرة الفلسطينية هي فعلا ذاكرة للنسيان؟ وهل صحيح أن الفلسطيني نُسي كأنه لم يكن؟ إن ما يقوله محمود درويش ويؤيده ما يحدث في غزة اليوم هو ألا أحد قادر على تركيب ذاكرة جديدة لهم وليس هناك ما يكفي من النسيان كي ينسَوْا، وألا شيء يساعد على النسيان في هذا القهر الذي لا يتوقف عن تذكريهم بأن ذاكرتهم ليست للنسيان، ولا هم يملكون في ظل هذا القمع نعمة النسيان وهكذا يُدفَع المطالَبُ بالنسيان إلى التدرب على حماية الذاكرة وعلى التحرر من داء نسيان الوطن. إن كل ما يحدث للفلسطيني في الداخل أو في المنفى يذكرّه بأن له مهمةً وطنية ويدربه على أنه ممنوع من أن ينسى فلسطينَ وأنه فلسطيني. ولكن ما دور الشاعر والمبدع الفلسطيني عامة (وكذلك العربي) في حماية الذاكرة من النسيان ومقاومة ما تتعرض له من تشويه وتغييب واعتداء؟ 

اضطلع محمود درويش جيدا بهذا الدور. ولنذكر به علّ الكتاب الفلسطينيين والعرب يواصلون اليوم ما بدأه هذا الشاعر ومن عاصره وتلاه من الشعراء الكبار (سميح القاسم- معين بسيسو- عز الدين المناصرة- تميم البرغوثي...). اضطلع بهذا الدور عندما أنجز كتابة الذاكرة الفلسطينية شعريا في أعماله الشعرية ونثريا في "ذاكرة للنسيان" والمقالات و"الرسائل" المتبادلة مع سميح القاسم وغيرها. واضطلع بهذا الدور عندما اشتغل بشكل متواصل ومتجدد على تيمة الذاكرة والنسيان اشتغالا إبداعيا بإبراز الوجه المأساوي فيها ولكن أيضا بإيصال رسائل مفادها أن الفلسطيني وإن كان مطالبا ومدرَّبا على أن تكون له ذاكرة للنسيان فإن قدرَه ودورَه أن تكون له ذاكرة للذاكرة وأن يقاوم من أجل ألا يُنسَى كأنه لم يكن. ولكن على أن يقول ذلك إبداعيا وجماليا لا أن يقوله مباشرا وسياسيا. فمعنى "ذاكرة للنسيان" صاغه درويش في النثر شعريا عبر المفارقات والانزياحات والاستعارات ومنها قوله: "وفي الخريف نكسر الذاكرة فيسيل الخمر من النسيان". وقصيدته السابقة ختمها بصورة جعل فيها النسيان طريقة لإثبات الحياة والحرية: "فأشهد أَنني حيُّ وحُرُّ حين أُنْسَى". وفضلا عن ذلك فإن محمود درويش يوجه أيضا رسالة إلينا جمهورا وشعراءَ: جمهورا كي لا نتذكر القضية الفلسطينية إلا عندما تتجلى المأساة أمامنا عبر الشاشات وتبلغ درجة صادمة لضمائرنا، ولا نتحرك إلا في المناسبات ونعود إلى نسياننا صامتين. وشعراءَ كي لا نجعل القضية الفلسطينية موضوعا شعريا ظرفيا نتبارى به في المهرجانات والأمسيات صراخا وبكاء وتصبح لكل شاعر قصيدة وطنية ثم نعود إلى نسياننا صامتين وإلى شعرنا متغزلين. ونخشى كما قال درويش نفسه أن "فلسطين تتطور من وطن إلى شعار ليس للتطبيق بل للتعليق وتزويق الخطاب" وقد صار الجمهور في كل عدوان يقول أين القصيدة؟ وفي كل قصيدة يقول أين المعركة أو أين غزة؟ ثم يمر العدوان فننسى القصيدة والمعركة معا. إذا نسينا القصيدة والمعركة- وقد التحمتا اليوم في غزة- فإن غزة لن تُنسَى وقد صارت اليوم ذاكرة كونية وقضية إنسانية، ولكن قد يُنسَى كأنه لم يكن من يجعل القصيدة دون المعركة أو المعركة تعلة للقصيدة، أي من يستبيح ملحمة غزة باسم شعر المقاومة أو يستهين بالشعر باسم التضامن مع غزة. إن غزة اليوم هي المعركة والقصيدة، فهي تقاوم شعريا وتبدع إنسانيا، فمن أراد ألا يُنسى كأنه لم يكن فليبدع وليجعل القصيدة-المعركة تضاهي المعركة-القصيدة فحين يبدع الشاعر تصبح القصيدة- أية قصيدة- ذاكرة للذاكرة لا ذاكرة للنسيان. 

وإذا كان هناك من قال إن غزة لا ينزف دمها وإنما تتبرع به لأمة بلا دم، فإن الشاعر عليه أن يضخ دما جديدا في قصيدته ويعيد الحياة إلى إيقاعاته وصوره المستهلكة ومعانيه المصطنعة فلن تقبل غزة منه سوى قصيدة تتدفق حياة ودما وتنهض من ركام الشعر المبتذل والمستهلك وتستعيد بهاءها وألقها لتكون في مستوى الملحمة النضالية والعرس الفلسطيني. وإذا كان هناك من قال أيضا إن الصهاينة أرادوا أن يمحوا غزة من الخارطة وفلسطينَ من الذاكرة فصارت غزةُ رمزا كونيا والعالمُ فسطينَ، فإن الشعراء مطالبون اليوم أكثر من أي يوم آخر بأن يرتقوا بقصائدهم الوطنية والملتزمة والمقاومة لا إلى مستوى وطني وعربي فحسب وإنما إلى مستوى كوني وإنساني يليق بكونية القضية وإنسانية المأساة الفلسطينية المتحولة إلى ملحمة معاصرة، وعليهم أخيرا أن يجعلوا القصيدة معادَلة صعبة وملتقى استثنائيا بين الإيديولوجي والشعري وبين السياسي والجمالي وبين الظرفي والمطلق وبين الواقعي والرمزي وبين الخاص والعام، وبين العاطفي والفكري... أي أن تكون القصيدة المقاومة أو الملتزمة قصيدةً شعرية قبل أن تكون مقاومة وملتزمة، فلا قيمة لشعر المقاومة إذا لم يحقق شعرية المقاومة، ولا معنى للالتزام الشعري إذا لم يكن التزاما بالإبداع قبل الالتزام بالقضية، فقضية الشاعر هي دائما وقبل كل شيء قضية إبداع وانتصاره يجب أن يكون انتصارا جماليا وفنيا، لأن القصيدة الجميلة هي بالضرورة قصيدة ملتزمة ومقاومة ولا يمكن أن تنسى كأنها لم تكن.