التقى د. بدر عبد العاطى وزير الخارجية والهجرة مع السيد " ألكسندر دي كرو " رئيس وزراء بلجيكا، ـ جريدة الهرم المصري نيوز

 

بقلم / عبد المنعم كامل

يعد المكان أخطر بعد في أبعاد العمل الفني سواء كان هذا العمل الفني قصة أم كان مسرحية، فلا يتصور أحد إمكان كتابة رواية لا وجود للمكان فيها ، فهو محدد أصيل من محددات الشخصيات والأحداث، لا يستطيع الكاتب صياغة عالم روائي في الفراغ، والمكان يجعل العمل المكتوب قابلا للتصديق من ناحية ومثيرا لذهن القارئ وطاقاته الانفعالية بما يقرأ من ناحية أخرى، فكل قارئ يبحث عن جانب مشابه لحياته في موضوع القراءة،  ولذلك يرتبط المكان الروائي دائما في ذهن القارئ بالمكان الذي يعرفه هذا القارئ منذ طفولته الباكرة، وحين يقرأ القارئ العربي رواية إنجليزية أو إيطالية على سبيل المثال فإنه يستحضر في وعيه عبر مراحل القراءة التشابهات الممكنة بين أمكنة الرواية التي يقرأها وأمكنته الشخصية التي عاش فيها، وسيكون التأثير كبيرا كلما كانت درجة التشابهات كبيرة، فهو حين يقرأ وصفا لنهر من الأنهار أو يتابع أحداثا جرت على ضفة هذا النهر فسوف يستدعي القارئ النهر الذي رآه أو عاش على ضفته، وكذلك يفعل مع البيوت والشوارع والمتنزهات ، وستقل درجة الاستمتاع بقراءة الرواية كلما كان الاختلاف بين أماكنها وأماكن القارئ كبيرا ، وسيضطر القارئ إلى استعمال طاقات خياله ليقلل من تأثير غربته المكانية عن أماكن العمل الذي يقرأه ، وقد أوضح المفكر الفرنسي جاستون باشلار خطر المكان وتأثيره في النفس في كتابه القيم " جماليات المكان " الذي ترجمه غالب هلسا في ثمانينيات القرن العشرين ، وأشار فيه إلى درجة الألفة التي تحدد طبيعة علاقتنا بمكان الولادة والنشأة في الطفولة والصبا.

من أجل هذا نؤكد على أهمية المكان في كتابة الرواية والمسرحية والقصة القصيرة، بل نؤكد على أهميته في كتابة الشعر نفسه مهما ادعى بعض الناس أن أهميته في الشعر قليلة بحجة أن الشاعر يصف المشاعر وليس في حاجة إلى ربط هذه المشاعر بمكان ما، وذلك أن المشاعر والأفكار تحقق خصوصيتها النوعية من خلال المكان الذي نشأت وتكونت فيه، ونحن ما زلنا نتلقى الشعر الجاهلي من خلال أماكنه الخاصة التي أكثر الشاعر الجاهلي من ذكرها في المعلقات وغير المعلقات.

إن حاجة المتلقي إلى ربط ما يقرأ من أحداث وما يتلقاه من مشاعر وأفكار بمكان يألفه ويأنس إليه حاجة كبيرة وملحة ليتحقق التأثير المثالي الذي ينشده الكاتب، وكذلك حاجته إلى خيال خلاق يمزج المكان المرسوم في الرواية بمكان القارئ الشخصي ، ولهذا اضطر النقاد إلى الحديث كثيرا عن شخصية المكان ودوره في الكتابة الأدبية بصفة عامة، بل إن بعض النقاد يحتفل بالرواية التي يكون للمكان فيها دور لا يقل عن دور أي من الشخصيات ، وهناك تفسيرات لمسرحية " الملك أوديب " ترى أن المكان هو البطل الرئيس في المسرحية، وتربط تفسير الشخصيات بهذا المكان ربطا قويا مباشرا.

ولقد لاحظنا عبر قراءاتنا لأعمال فنية كيف أن الرواية تقل جودتها كلما خلت من حضور مكاني قوي، وكان مكانها قليل التأثير في بناء الحدث الروائي أو يمكن الاستغناء عنه ، بقدر ما رأينا أن هذه الجودة تزيد وتعظم كلما كان للمكان حضور قوي وفعال، فرواية الطريق لنجيب محفوظ وكذلك الثلاثية لم يكن القارئ ليستجيب فيهما للأحداث استجابة حقيقية لو أن الكاتب سردها منفصلة عن الأماكن التي دارت فيها ، بل إن هذه الأحداث التي ينشئها الكاتب تكتسب خصوصيتها النوعية من خلال إيرادها في مكان يعرفه القارئ أو على الأقل لا ينكره ، وأنت تفسر طبائع الشخصيات بناء على أماكن نشأتها وعملها التي أسهمت في بناء قيمها وعاداتها وطريقة نظرتها للأمور أو كما يقول النقد الحديث موقف الشخصيات من الوجود. 

من أجل هذا كله نؤكد على ضرورة اهتمام الكاتب بتفاصيل المكان فيما يكتب من أعمال أدبية ، ولقد كثرت الكتابات الروائية التي جاء ذكر المكان فيها باهتا ، أو مجردا من التفاصيل الحيوية ، واكتفى الكاتب بالإشارة العامة كأن يقول مثلا: والتقى فلان بفلان في القاهرة فحدث كذا وكذا ، دون أن يضع الحدث في تفاصيل مكانية تكسب الأحداث تأثيرها وحيويتها، أو يشير إلى حدث ما فيقول : وبينما كانا على سطح قارب في النهر حدث كذا وكذا ، دون أن نرى صورة للنهر وللقارب ، فهذه في تصورنا كتابات مجانية لا تحقق لنفسها أي نوع من الاستجابات الحية الحقيقية.

إن أكثر ما يثير الاهتمام بأدب نجيب محفوظ على سبيل المثال هو الاستغراق في تفاصيل المكان، ونسوق في هذا الحديث مثالا من رواية ميرامار يجسد التأثير الكبير للمكان وخطره في عملية التلقي، فأنت لا تملك هربا من تأثيرية الوصف المكاني الدقيق في ميرامار وهي واحدة من رواياته العظيمة، يقول محفوظ في أول الرواية  " الإسكندرية أخيرا ، الإسكندرية قطر الندى ، نفثة السحابة البيضاء، مهبط الشعاع المغسول بماء السماء، وقلب الذكريات المبللة بالشهد والدموع، العمارة الضخمة الشاهقة تطالعك كوجه قديم، يستقر في ذاكرتك فأنت تعرفه، ولكنه ينظر إلى لا شيء في لا مبالاة فلا يعرفك، كلحت الجدران المقشرة من طول ما استكنت فيها الرطوبة، وأطلت بجماع بنيانها على اللسان المغروس في البحر الأبيض يجلل جنباته النخيل وأشجار البلح ، ثم يمتد طرف قصي حيث تفرقع في المواسم بنادق الصيد، والهواء المنعش القوي يكاد يقوض قامتي النحيلة المقوسة" 

هذا الوصف الشعري الدقيق للمكان في الإسكندرية بتفاصيله الموحية لا ينفصل مطلقا عن تصوير الأحداث التي تتعاقب مختلطة بهذه التفاصيل ويفسر الجوانب النفسية للشخصيات في حركتها المتلاحقة عبر الرواية، وسنلاحظ هذا التدفق في إحاطة المكان بالأحداث والشخصيات في كل ما نقرأ لنجيب محفوظ من روايات وفيما نقرأ لغيره أيضا من الروائيين المجيدين.

وكما أشرنا سابقا لا يمكن أن تتحقق المتعة الحقيقية من قراءة الشعر أو القصة أو المسرحية إذا أنشأ الشاعر رؤاه أو أنتج القاص أحداثه منعزلة عن المكان المحيط بالشخصيات وحركة الحياة.