بقلمي نورهان ناصر.
*صَلى عَليكَ اللهُ يا مَن ذِكرُهُ،*
*شرَحَ الصُدورَ وَ طَيّبَ الآفاقَا ﷺ 🤎 .*
أذكروا الله
__________________
يدور العالم من حولها، بينما كانت ساكنةً على المقعد الخشبي في شرفة منزلها، الذي شاركها لياليها المريرة بصدرٍ رحيب، لم يكن لها من جليسٍ ولا ونيسٍ سوى الحزن الشديد، وكان البؤس ملبس وجهها المليح، ذبلت الحياة في عينيها الكحيلتين، و بكت شفتاها كمدًا على ابتسامة صافية ما عادت تدري لها من سبيلٍ.
كانت أنفاسها تخرج بصعوبة شديدة، وكل ثانية وأخرى تُحتجز في صدرها، و كأنها ترى بقاءها حتى الآن في هذه الدنيا سجنٌ أليمٌ على جريمة هي بريئةٌ منها، براءة الذئب من دمٍ ابن يعقوب، كم تتوق نفسها للتحرر منه لترقد روحها في سلامٍ مستحيل؛ ففي القلب نارٌ وعذابٌ أليم، و ندوبٌ غائرةٌ لا يمحوها الزمان ولا السنون.
و بالخلف، عيون يكسوها الألم الطويل على ما أصاب ذلك الطائر الجريح، ابتلعت ريقها وتقدمت صوبها، وبنبرة مهتزة راحت تقول :
_ هتفضلي قاعده كدا زي المطلقة؟ لحد امتى بس عاوزة أفهم؟
رفعت رأسها عن مسند الشرفة الذي كانت تستند عليه بمرفقيها، ونظرت إليها بصمتٍ وكأنها لا ترى في الإجابة أي فائدة.
استشاطت والدتها بشدة، ثم أخذت تنقر بإصبعها على كتفيها، و أكملت حديثها غاضبةً مُظهرةً قسوة غير معهودة، و داخلها مراجل من نارٍ تغلي روحها:
_ من الأدب تردي عليا، أنا مش بكلم نفسي هنا.
مجددًا، رفعت رأسها ونظرت إليها، ولم تتحدث ببنت شفة، فعادت والدتها تهتف مغتاظة من برود ابنتها الغير مرغوب فيه:
_ يابنتي، ردي عليا بقالنا سنة ونص مسمعناش صوتك، حرام عليك نفسك، وحرام عليك أنا و أبوكِ بتعملي كدا ليه؟
نهضت عن المقعد واتجهت نحو زاوية معينة للسور الخاص بالشرفة، واستندت بمفرقيها عليه، تاركةً والدتها تتحدث وكأنها تحادث نفسها.
صاحت والدتها بانفعالٍ، قائلةً أثناء وضعها إحدى يديها على خصرها:
_ لا، كدا الوضع بقى لا يُطاق يا عَبد الصبور، تعالى شوفلك صرفة في بنتك دي، لو وقفت أكتر من كدا هتشل، والله البت بتضيع مننا.
خرج عبد الصبور إثر صياح زوجته ذات النبرة العالية، وهتف بتعب من مشادة كل يوم :
_ إيه بس يا زينب طّولي بالك على البنت، وسيبيها في حزنها هي تتخطاه بنفسها، الدكتور قالنا هي هتاخد فتره وترجع لـ....
صاحت زوجته تقاطعه بمرارةٍ وقد طفح كيلها:
_ ترجع إيه ؟ إيه اللي بتقوله ده؟ بنتي بقالها سنة و نص مبتنطقش بتبصلنا كأنها متعرفناش، البت بتضيع يا عبد الصبور، دي بقى عندها تبلد في المشاعر ولا بتظهر أي رد فعل، هتجنن دي حتى مفيش دمعة واحده نزلت منها، البت هتضيع من بين ايدينا، سيبك من كلام الدكاترة ده، وتعالى ناخدها للشيخ صالح أكيد حد ....
زمجر عبد الصبور منفعلًا بغضب، وكأنه كان ينتظر سماع كلمتها تلك لينفجر هائجًا، بعد أن كان يتحدث بنبرة هادئة:
_ بردو هتقولي الشيخ صالح، بقولك إيه؟ بنتي طبيعية ومفيهاش حاجة، اللي حصلها بردو مش قُليل، سيبي البت يا زينب، وتعالي جهزي الفطار علشان أروح الشغل، دي بقت عيشة تقصف العمر، استغفر الله.
مصمصت زينب شفتيها بتهكم واضح على تبرم زوجها، كما العادة لا يكترث لما تقوله أو تحاول فعله، وكأنها شيء مهمش في حياته وليست زوجته:
_ استغفر الله يارب، أدي اللي باخده منك كل يوم ومفيش عُقاد نافع.
صمتت لبرهةٍ ثم أكملت بغصة :
_ يا ناس هتجنن مش بنتي دي! كان مكتوبلك ده كله فين يا بنتي؟
ختمت حديثها ثم انصرفت تجاه المطبخ لتحضر الإفطار، وهي تضرب كفي يديها ببعضهما، و تهز رأسها بأسى كبير.
وعلى مقعد الشرفة الوفي راحت تسير حتى جلست عليه، ظلت أنظارها متعلقة بتلك البناية السكنية، و كأنما مرآة عيناها لا تبصر سواها في ذلك المحيط المظلم، الذي حُبست في داخله، فكانت منارة النور الوحيدة في عتمة العالم البغيض، قطع بؤرة التيه القاسية، همهمات متهكمة ساخطة، تأتي من جوار الشرفة، والتي اعتادت على سماعها في كل حينٍ.
_ أعوذ بالله من غضب الله، ادخلي يا بت يا سماح
المنحوسة ورد واقفة في البلكونة، مش ناقصين يا بنتي تعملك حاجة، وخلي خطيبك يعدي من الباب التاني، أو قوليله ميجيش دلوقتي.
ضيقت سماح عينيها غاضبة، من حديث والدتها السخيف، ثم قالت معقبةً :
_ يا أمي، كفاية بقى حرام عليك، والله اللي بتقوليه ده، هي ذنبها إيه يعني؟
تشدقت والدتها هاتفةً بغضب وهي تزجرها بعينيها :
_ ذنبها إنها منحوسة يا أختي قتالة الرجالة دي، نسيتي أسامة و معاذ كانوا شباب زي الورد، وأول ما خطبوها ماتوا وهما في عز شبابهم، ده غير أن كل ما شخص يتقدم لها يموت بعدها مفيش يومين و نسمع خبره، والأخير يا عيني إسلام سُكر حارتنا، اللي كان خلاص يوم دخلته، وقولنا ربنا سترها المرة دي، يموت هو كمان يا بت، دي منحوسة وشها فقر وقدمها نحس على الرجالة، أنتِ نسيتي إنهم اتهموها بقتلهم كلهم!
نفضت السجادة بقوة على الشرفة و هي تكمل و عينيها على ورد، التي تُحدق بالبناية السكنية :
_ الله أعلم عملت فيهم إيه؟ خشي انجري على جوا، وحسك عينك أشوفك واقفة بس تتكلمي معاها خلي ربنا يسترها.
رمقتها سماح بغيظٍ شديد ثم هزت رأسها بيأس فـ والدتها لن تقتنع بما تقوله لها على أي حال، ولكنها فجأةً توقف و ألقت كلمتها التالية باستنكار :
_ اكلمها إيه بس؟ وهي بتنطق؟ مسكينة والله، ربنا يعينها على اللي هي فيه، ويرحمها من لسانكم.
أنهت حديثها ثم دلفت بخطوات سريعة هاربةً من والدتها التي التوى ثغرها بابتسامة سخرية، ورفعت أحد حاجبيها بتهكم شديد، ثم أغلقت باب الشرفة بغضب ودلفت بخطوات مسرعة إلى الداخل وهي تقرأ المعوذتين، وكأنما شاهدت أحد الأشباح وليس بشرًا مثلها.
بينما ورد من كل ذلك كانت عيناها متعلقةً في البناية السكنية صافنةً في عالمها الخاص، عقلها غارقٌ في الذكريات، أصوات كثيرة تتصارع في داخلها، ضحكات و ابتسامات، مشاهد تتقافز أمام عينيها الشاردة في المبنى.
**
_ حد يشوفنا؟
نظر لها مستنكرًا و ضمها أكثر وهو يميل على وجنتيها مقبلًا:
_ ويشوفوا، أنتِ مراتي، و أنفاسي لو بعدت عنها أموت، قربي أكتر طمني قلبي الهايج ده، خليه يحس بيكِ ويهدى عليا شوية.
ابتسمت حتى تفتح الجوري في وجنتيها، و ازدادت لمعة عيناها بالحب بعد حديثه، ما كان منها سوى أنها شددت ذراعيها حوله أكثر، وهي تردد بنبرة ودودة وهي تنظر إلى قلبه :
_ أنا هنا أهو، معاك وبحبك، وهفضل أحبك.
أتت في تلك الأثناء أختها الصغيرة سلمى ذات العشر سنوات، لتخرجها من ذكرياتها، وهي تقول بابتسامة بريئة لا تعي بجراح أختها الكبرى وما تعانيه طوال حياتها:
_ ورد، عاوزة أنزل البحر تعالي وديني، عندي رسمة جديدة عايزة ارسمها.
التفتت ورد لها ولم تتحدث، أخذت شقيقتها في جذب فستانها وهي تقول في إصرارٍ:
_ يالا، يالا يا ورد، النهاردة إجازة، وأنا عايزة أروح من بدري، مؤيد هيبقى هناك، وعاملين مسابقة في الرسم ومش عاوزاه يغلبني.
خرجت زينب من المطبخ، على سماع حديث ابنتها الصغيرة سلمى، ضيقت عيناها و قالت بحزم:
_ سلمى متضايقيش أختك سيبيها على راحتها.
نفت سلمى برأسها، و بدأت تجذب فستان أختها أكثر، ثم هتفت بتذمر وبنبرة أشبه بالبكاء :
_ مليش دعوة مليش دعوة، عايزة أنزل دلوقت، ورد يالا.
_ روحي مع أختك يا ورد، معلش.
خرجت تلك الكلمات من فم عبد الصبور الذي خرج من غرفته يحمل بين يديه منشفة صغيرة، وهو يمر من أمام الشرفة متجهًا إلى الصالة، حيث مائدة الطعام.
ضربت زينب كف يدها بالآخر، وهتفت بضيق:
_ هي مين دي اللي هتخرج؟ أنت بتقول إيه يا عبد الصبور؟ عاوز تجنني؟
ألقى عبد الصبور المنشفة من يده على أحد المقاعد وزمجر بحدة:
_ جرى إيه يا زينب؟ كلام إيه اللي قولته وغريب عليك؟ بقول لورد تاخد أختها، وتنزل شوي البنت جالها اكتئاب يا ولية.
اتسعت عيني زينب بغضب، وهتفت بضيق شديد:
_ أنت ناسي الناس بتقول إيه على بنتك؟
أغمض عبد الصبور عينيه لحظات بضيق، هو يعلم ما تقصد زوجته بحديثها، ولكنه أب يرى ابنته في أسوء حالة، منذ يوم تلك الحادثة اللعينة، ثم رد عليها باقتضاب:
_ قطع لسان كل كلب يجيب سيرة بنتي على لسانه، هي نصيبها كدا، قدر الله وما شاء فعل وبعدين كفاية اللي هي فيه البنت بتموت بين ايدينا، عايشة ومش عايشة بقالنا سنة ونص من يوم الحادثة وهي مبتنطقش بـ ولا كلمة.
عادت زوجته تهتف بنبرة متهكمة:
_ روح قول للناس كدا، دول بيقولوا عليها عزرائيل ومنحوسة وبيخافوا منها علشان .....
قاطعها عبد الصبور بيده، وهتف ينهي ذلك الحوار البغيض، وهو يحدق في عينيها غاضبًا من كلامها الذي تردده أمام ابنتها دون انتباهٍ :
_ استغفر الله يارب، الناس خلاص بقوا من دون عقل، هي بنتي اللي قتلتهم هما اللي ماتوا، وده قدر محتوم ممنوش رجعة، كفاية بقى ارحموا وخلوا رحمة ربنا تنزل، مترميش ودانك ليهم دول عالم مريضة، ومتخلفين مش عارفين هما بيقولوا إيه؟ وحق بنتي هيرجعلها هيرجعلها خليهم هما يملوا خزان سيائتهم، هيكفروا على آخر الزمن، حسبي الله ونعم الوكيل فيهم، حسبي الله ونعم الوكيل، مش هقول إلا كدا.
أدمعت عيناها حزنا على ابنتها الكبرى، وما لاقته من معاناة، وعلى حظها العاثر، إلا أنها تماسكت ثم نظرت إلى ابنتيها، ابتسمت بخفوت تنهي ذلك النقاش وبنبرةٍ مستسلمة قالت:
_ اعملوا اللي تعملوا، بس متتأخروش أوي وخلي بالك من أختك يا سلمى ...
صمتت فجأة وكأنها استوعبت ما قالته، ثم تابعت بحزنٍ بائن:
_ عجبي عليك يا زمن، الصغيرة هتخلي بالها من الكبيرة.
هتف عبد الصبور منزعجًا :
_ يا ولية، خفي على البنت مش كدا يا ستير عليك.
رفعت زينب يدها ثم وضعتها على فمها وهي تنظر له بملامح أكلها الحزن الشديد، صاحت سلمى وهي تجذب يد أختها وتقول بسعادة:
_ ورد، جهزي نفسك هجيب شنطني، وأدوات الرسم وننزل شط اسكندرية دلوقت هادي والجو حلو هيعجبك، يالا بينا ومش تزعلي أبدا جوزك عند ربنا في الجنة.
*********
وبعد مرور بعض الوقت، كانتا تسيران باتجاه البحر وسلمى تمسك بيد أختها، وابتسامة كبيرة تُزين محياها، في حين كانت أعين ورد تحدق بالأرض كمن ارتكبت ذنبًا كبيرًا لا مغفرة له.
وبالطبع، كانت أعين الناس لا ترحمها بمجرد مرورها من أمامهم، يبدأ الهمز واللمز ممن يعرفونها وممن لا يعرفونها.
ومما تبادر إلى أذنها وسمعته بنفسٍ منكسرةٍ، ذاقت الويلات ولم يدروا عنها شيئًا.
"استر يا رب على رجالتنا، خش يا سعيد، جوا يا حبيبي متطلعش دلوقت "
زمجر ابنها بغضب وهو ينظر إلى يديها اللتين تدفعان به صوب المنزل:
_استغفر الله يا أمي، اتقي الله اللي بتعملوا ده غلط.
لوت والدته شفتيها بعدم رضا من حديث ولدها، ثم أمسكت بيده ودلفت إلى منزلهم وهي تصيح فيه.
وتعالت الأصوات من حولها وكلٌّ بكلمته، والكل أخذ في الإبتعاد مفسحين لها الطريق، وكأنما هي جنٌ يخافون النظر إليه.
" ماما هي دي ور...أقصد المنحوسة اللي بتقولي عليها "
"امشي يا عبد الله، يا حبيبي متبصش عليها "
"مش دي البت اللي جوزها مات يوم الفرح يا أم حمزة "
ضيقت السيدة عينيها وهي تعقد حاجبيها بانزعاجٍ، تنظر إلى ورد بسخرية :
_ آه تصدقي هي، صحيح ودي ليها عين تطلع الشارع، لا و لابسة أبيض، بقى ميت على ايديها تلت شباب زي الورد وهي ماشية لابسة لينا أبيض، وفاردة شعرها، صحيح اللي اختشوا ماتوا "
انضمت لهما سيدة أخرى، و أضافت بنبرة حزينة :
_ دي أم إسلام لانهاردة بتتهمها بقتل ابنها، هي أصلًا يا عيني مكنتش موافقة على الجوازة دي من بعد ما عرفوا إن كان متقدملها شابين، وكل واحد فيهم قعد فترة ومات ده غير اللي كانوا بيتقدموا ويموتوا بعدها على طول، بس ابنها بقى اللي أصر عليها يا أختي، مش عارفة خرجت إزاي من القضية بس؟
كانت تستمع إلى همساتهم وكلماتهم اللاتي قطعت أوصال قلبها الحزين، وألمت روحها بصمتٍ وعينيها منخفضة في الأرض.
أخذ عقلها يصرخ مستنكرًا: على أي شيءٍ يلومونها هؤلاء؟ تبًا لهم أيَلومُونها على موتهم؟ وهل كان ذلك بيدها؟ أليس الموت ملكًا لله عز وجل؟ ما بهم هؤلاء الناس قد جُنّوا؟ و باتوا من دون عقل كما سبق وقال والدها.
لم تعلم كيف وصلت إلى البحر إلا على صوت أختها الصغيرة، التي افلتت يدها، وأخذت تركض صارخةً بفرحة عارمة، فرحة كانت أختها أبعد ما يكون عنها.
_ وصلت قبل مؤيد، يالا يا ورد اقعدي هنا، وأنا جنبك هبدأ ارسم ماشي.
أومات ورد برأسها بصمت، واتجهت قرب أحد الأحجار الموضوعة قرب البحر، جلست عليه وأخذت تنظر نحو المياه بعمق شديد، ليسحبها عقلها في رحلة نحو ذكرياتها المريرة.
**
كان يُدخل المفتاح في القفل وهو ينظر نحوها، كأنه يخشى أن تغفل عيناه عن رؤية رمشة من عينيها اللتين يغرق فيهما إلى الخِضمِ، ابتسمت في خجلٍ و أخفضت بصرها أرضًا، مع احمرار طفيف في وجنتيها زادها جمالًا أكثر في عينيه، اعتدل واقفًا بعد أن كان يميل نصف ميلة ليفتح الباب، و منحها أجمل ابتسامة تزينها بؤرتين محببتين إلى فؤادها، وهو يبسط يده صوب الداخل يقول بنبرة حانية :
_ ادخلي مملكتك يا ست البنات وست قلبي.
ضغطت ورد على شفتيها حياءً من الخجل والتوتر، ثم حركت يديها لتحمل طرف ثوبها الأبيض اللامع، اختلطت شهقتها مع الهواء حين مال إسلام يحملها على ذراعيه وهو يقول بمرحٍ :
_ كدا ندخل، معقول هسيبك تدخلي على رجليك !
أخفت رأسها في عنقه والبسمة تعانق خديها من شدة السعادة، سعادة شاركها القلب فيها وأخذ يغني طربًا جميلًا كلُّ نغمة منه تنادي بالحبيب، لفت يداها حول رقبته برقة شديدة تتمسك به بقوة وكأنما تتمسك بالحياة،لم ترفع رأسها إلا عندما أنزلها برفق، ثم تحدث مبتسمًا بلطف وهو يشير إلى طاولة الطعام المملوءة بما لذة وطاب:
_ أنا هموت من الجوع بجد، تسلم ايد حماتي الأكل يفتح النفس، يالا تعالي، أكيد أنتِ كمان جعانة.
جلست معه في هدوءٍ وابتسامة واسعة تحتل موقعها على ثغرها، ابتسامة تحولت إلى ضحكات مجلجلة حين أخذ هو يطعمها بيده دون أن يضع شيئًا من الطعام في فمه، وبعد وقت، أبعدت يده وقالت من بين ضحكاتها :
_ خلاص، شبعت مش قادرة، أنت عمّال تأكلني وأنت مش بتاكل يا حبيبي، لحد ما هبقى ميّة كيلو، كُل يا إسلام حاجة علشان تشبع أنت قولت إنك جعان.
وضع إسلام الملعقة المحملة بالأرز في مكانها، ثم رفع يدها وضمها بين يديه وقال وهو يقربها من شفتيه :
_ أنا عيوني بتشبع بشوفتك وجسمي بياخد غذاه لما أضمك لقلبي، فأنا شبعان بعيونك وضحكتك يا حبيبتي، أنتِ عارفة إني بحبك من زمان أوي، و تعبت لغاية ما وصلنا للخطوة دي، مش مصدق نفسي بجد أنتِ هنا معايا في بيتنا، إيدك مش هتفارق ايدي تاني، هقدر اطمن قلبي واضمك بين ايديا في كل وقت، هقدر اتنفس أخيرًا براحة لأنك معايا، أنا بعشقك يا ورد، و حاسك كتيرة عليا، أنتِ وردة جورية غالية، ومن حظي إنك كنتِ من نصيبي.
أسدلت ورد أهدابها خجلًا، ضحكت عيناها بسعادة، وابتسمت بملء شفتيها و قد شعرت أنها ملكت الدنيا، غمرتها مشاعر عديدة، حب و فرح و آمال في حياة جديدة تفتح لها ذراعيها.
بعد حديثه، تنهدت بوله، فقط أن تنظر إليه بصفاءٍ تغوص عيناها في بحر عينيه العسليتين و بعدها ليحترق العالم لا يهمها، فقط هي و هو و دقات قلوبهما النابضة بالعشق الجميل.
بعد أن طال صمتها كما طالت نظراتها اللاتي يعشقها، ضغط إسلام على أصابع يدها بين يديه بحنان بالغ، كأنها ألماسة كريستالية، يخشى خدشها فيعاملها بكل رقةٍ و لطفٍ شديد، لا يعجب من حوله ولكن هل يهتم ؟ بالطبع لا.
هي أنفاسه هكذا كانت عنده، وتلك نظرته إليها.
رقت نظرات عينيها و راحت تهمس بصوت ناعم و أعينها على خاصته :
_ وأنا كمان بحبك، أنت كل حياتي يا إسلام، حبي ليك كان مكنون في قلبي، لا عشقت قبلك ولا بعدك، كنت مستنية القدر يجمعنا بفارغ الصبر، حتى خطوبتي في المرتين، عارفة السيرة دي بضايقك بس أنا صدقني رفضت، بس عمتي أجبرتني وكمان سفرك طال، منكرش إني زعلت على وفاتهم بس فرحت إني بقيت حُرة وإن قلبي المكنون ليك أنت وبس.
ابتسم إسلام براحة وقبَّل يديها كلُّ واحدة على حدة، سحبتهم بعدها بلطف، وقالت بابتسامة واسعة:
_ هغير واجي نصلي.
_ تمام، وأنا كمان لو احتاجتي مساعدة متتردديش تطلبيها مني.
أومأت ورد بهزة بسيطة من رأسها و استدارت تعطيه ظهرها، و فجأةً، شعرت به يجذب ذراعها نحوه، كتمت شهقتها المتفاجئة في صدره الذي ارتطمت به، وقبل أن تنبس بحرف شعرت به يلف ذراعيه حول ظهرها في عناقٍ كبير، ثم دفن رأسه في عنقها يشتم عبير سحرها الذي يهواه، طال عناقه وشدد ذراعيه حولها يضمها إلى حضنه أكثر، أغمضت عيناها مستمتعة بسماع أنفاسه الداخلة و الخارجة، وقلبه الذي يدق بعنفوان، قبل أن تسمعه يهمس في أذنيها بحبٍ :
_ بحبك يا وردتي.
ابتسمت ورد ثم مالت على وجهه مقبلةً وجنته بحياءٍ، قبل أن تتركه و تدخل إلى غرفتهما، بدلت ملابسها سريعًا، لأنه في أثناء عناقه لها قام بحل عقدة الفستان ليسهل عليها نزعه، دون أن تطلب منه.
حمدت الله كثيرًا، وابتسمت كم هو لطيف و مراعي لكل ما يتعلق بها.
ثم توضئت و قبل الخروج نظرت إلى نفسها في المرآة نظرة أخيرة، ابتسمت ما إن أبصرت صورتها في ذلك الاسدال، الذي كان أول هدية منه منذ أمدٍ بعيد قبل سفره إلى دولة أخرى لتكوين ذاته، وكيف أعطاه لها بصعوبة شديدة، ثم خرجت من الغرفة وتركت بابها مفتوحًا، نفخت الهواء بقوة وهي تلوح على وجهها الذي شعرت به يكاد ينفجر من شدة الحرارة والمشاعر.
كان لا زال يجلس في مكانه ينظر إليها بعينين انطفأت الحياة فيهما، سرّعت ورد من خطواتها، و دنت منه وكانت دقات قلبها في اضطراب من هيئته تلك، همست بصوت لا تعلم كيف استطاعت إخراجه:
_ حبيبي، أنت كويس؟ إسلام؟
مجرد أن لمست يدها جانب وجهه حتى سقط على الأرض لا يحرك ساكنًا، شهقت في صدمة كبيرة، رفعت يديها المرتجفتين وضعتهم على وجهها كي لا تراه وكأنما هي تحمي عيناها من رؤية منظرًا مخيفًا، بعد دقيقة من الذهول انحنت تجلس على ركبتيها، مدت يدها المرتعشة ترفع رأسه لترى وجهه، فوقعت عيناها على عينيه اللتين لا تزالين مفتوحتين يملأهما الدموع المتخشبة.
لمست جانب وجهه بيديها، مررت أصابعها من عينيه إلى شفتيه التي خمدت ابتسامتهما الخاطفة لأنفاسها، مالت عليه تُقبل جبهته وهي تحتضن رأسه في هدوءٍ شديد، عقلها في صدمة شديدة لا يستوعب ما حصل.
تحدثت بشفتين مرتجفتين، وهي تزيد من ضمه إلى صدرها:
_ ده هزار بايخ منك، رد عليا، هتفضل تبص لي كدا، وعيونك بتعيط، طب بتعيط ليه يا قلبي؟ أنا هنا أهو بين ايديك، كانوا دايمًا عيونك يدمعوا لما أكون بعيدة عنك أو مش هتشوفني تاني، طب ليه بيعيطوا دلوقت وأنا هنا؟
ختمت حديثها و بأطراف أصابعها، كانت تملس على كلتا وجنتيه اللتين شعرت بهما باردتين كالصقيع، نظرات عينيه الدامعتين أضرمت النيران في قلبها، ابتسمت باضطراب شديد، وهي تطالعه بأنفاس مثقلة بالخوف الشديد :
_أنا جنبك يا حبيبي، وردتك هنا، رد عليا أبوس إيدك، إسلام، أنت ساكت ليه كدا؟ جسمك قطعة تلج، أنت بردان يا إسلام؟ أنا جنبك وهدفيك، مش كنت تقولي حضني هو الدفء، إسلام حاسة قلبي هيقف يرضيك قلبي يوجعني، حاسة بوجع شديد في قلبي، في نار جوايا متسكتش كدا.
أبعدت رأسه عن حضنها و طوقت وجهه بيديها، حدقت في عينيه الحزينتين، و غمغمت بصوت مرتجف :
_ إسلام بطل تبص لي و عيونك مليانين حزن ودموع أنا هنا أهو، جنبك وقريبة من قلبك، متعيطش بتعيط ليه؟ أنا هنا أنا معاك، متعيطيش يا حبيبي.
وبعد عدة دقائق أخرى، من حديثها معه دون أن تتلقى ردًا، تراجعت للخلف بخوفٍ شديد تلبسها دون رحمة، وقد بدأ عقلها يدرك واقعه الأليم، حتى اصطدم جسدها في الجدار خلفها، وسقطت تلك المزهرية من فوق الرُكنية التي تحتل مكانها في جانب الجدار، صرخت ورد بفزع، وهي تنظر نحوه بعيون شاخصة، وعقلها يصرخ بكلمة أوقفت النبض في قلبها، لقد مات، رحل حبيبها.
لقد كان يضحك ويتحدث معها قبل دقائق فقط، كيف؟ كيف يتركها هكذا فجأةً دون سابق إنذار؟ كان يضمها إلى حضنه كان بين يديها، كانت تمسك به وتستمع لأنفاسه، وكان يبتسم لها بحب، أكان ذلك عناق الوداع؟
منذ لحظات كانت السعادة لا تسع أجنحتهما، كيف تحولت تلك السعادة إلى موجة معتمة بغيضة؟ كيف انقلب محيطهما من قمة الفرح إلى قمة الحزن؟
رنَّ في أذنيها آخر كلمة نطقها وهو ينظر لها بكل الحب الذي يعتمر قلبه، قبل أن تتركه.
" بحبك يا وردتي "
عادت من بحور ذكرياتها القاسية، عيناها واجمة و نظراتها جامدة، فجأةً، رأته يقف في منتصف البحر يمد يديه إليها وتعتلي شفاهه ابتسامة واسعة، وقفت كمن لسعته أفعى سامة، اتسعت عيناها ذهولًا، وبلا شعور منها أنزلت قدميها واتجهت نحوه بخطى سريعة والبسمة أخيرًا عرفت طريق شفتيها.
أخذت تتقدم وتتقدم وكأنما قد انفلق البحر لها كما حدث لسيدنا موسى، وهي تمشي به بسرعة كبيرة، ثم بدأت تركض صارخة، فتزداد ابتسامته وهو يحثها على الإسراع أكثر.
********
كانت تضع يدها أسفل ذقنها بينما تستند على حافة الطاولة، بعد انتهاءهم من الفطور وذهاب زوجها إلى العمل، أطلقت تنهيدة عميقة وبلا شعور منها انسابت عينيها في دموعٍ كم أحرقت فؤادها، ولم تستطع التعبير عنها، بل لم تدع لها العنان لتنطلق، آثرت كتمانها بداخلها، رغم تصنعها القوة أمامهم، ولكن عندما تخلو بنفسها تبدأ في الإنهيار مطلقة لعينيها العنان، أخذت تناجي ربها بتضرعٍ:
_ يا رب اللهم لا اعتراض على نصيبها واللي حصلها، بس بنتي بتضيع مني، أنا عارفة إنهم كانوا هيموتوا حتى لو مرتبطوش ببنتي، وحصل اللي حصل، بس الطف بيها، وساعدها من عندك يارب، متختبرنيش في أولادي، يارب اصلح حالها قادر يا كريم.
ختمت دعاءها وهي تمسح دموعها بيديها، عندما التقطت أذنيها صوت رنين جرس منزلها، تساءلت داخلها باستغرابٍ عن هوية الزائر:
_ يا ترى مين؟ ممكن تكون ورد رجعت!
زاد الطرق على الباب بعد توقف رنين الجرس، فأسرعت في خطواتها، التقطت وشاح رأسها و ضعته على عجلٍ، بللت شفتيها الجافتين من الحزن، ثم هتفت بصوت مرتفع بعض الشيء:
_ طيب، لحظة جاية أهو !
أعقبت حديثها وهي تفتح الباب، نطقت شفتاها همسًا مصدومًا، وهي تحدق في ملامح وجهها القاسية:
_ سعاد؟
منحتها المدعوة بسعاد نظرة متهكمة، وهي تبتسم بسخرية، ثم دفعت بها إلى داخل المنزل، واضعة حقيبة متوسطة الحجم على الأرض، نظرت زينب إلى حقيبتها بتوتر وهتفت وهي تزدرق لعابها ببطء:
_ سـ ...سعاد
قاطعتها سعاد بغضب قائلةً، وهي تقوم بحل حجاب رأسها:
_ إيه مالك ؟ زي ما يكون شوفتي إبليس، مش بيت أخويا ده ومن حقي آجي و أشوفه زي ما يعجبني.
أغمضت زينب عينيها بضيق، ثم تنفست الصعداء، فتحت عيناها و ابتسمت باتساع، تنظر إلى أخت زوجها بضيق خفي، تلك المرأة سليطة اللسان والتي لا تعطي لمن أمامها فرصة لـيستوعب فقط نصف كلماتها، لا ترى إلا وفجأةً انفجر في وجهك مدفع للكلام لا ينتهي مما يجعلك تلعن ذاتك فقط لمجرد الحديث معها.
_ حقك طبعًا، هو حد يقدر يقول غير كدا، أنا بس اتفاجئت، يا أهلًا وسهلًا، بنت حلال والله تعالي.
دون أن تنظر إليها خطت سعاد بخطواتها داخل الشقة، وكأنه حق مكتسب لها، ثم جلست على أحد المقاعد وابتسمت في وجهها بخبث وهي تقول بسخرية شديدة :
_ أُمال عديلة الحظ فين؟
قبضت زينب على يديها بقوة حتى لا تقم بضربها، فهي تعلم تمامًا عما تتحدث، ثم ابتسمت في وجهها بتهكم وهي تقول ضاغطة على كل حرف من كلماتها:
_ ورد، اسمها ورد بنت أخوك الوحيد.
لوت سعاد شفتيها بتهكم واضح، ثم تشدقت قائلةً في سخرية:
_ ورد، سبحانه وماله يا أختي ورد ورد قال من كل أسماء الدنيا ملقتوش غير ورد، وهي لا ورد ولا نيلة.
غمغمت زينب بضيق شديد وهي تجز على أسنانها، لتقطع عليها حديثها عن ابنتها، ولو لبضع دقائق فما من أحد يسلم من لسانها:
_ تشربي إيه ولا تفطري الأول؟
استرخت الأخرى في مقعدها وهتفت بضيق شديد وهي تطالعها بحنق مبطن :
_ سيبينا من الأكل والشرب، أنا مش ضيفة، واقعدي كدا وفهميني.
رمقتها زينب بعدم فهم، ثم جلست مقابلها وقالت :
_ افهمك إيه؟
زمت سعاد شفتيها بتهكم، وقالت وهي تتفرس معالم وجهها بأكمله؛ لتستشف أنها تفهم جيدًا عما تتحدث ولكنها تتدعي عدم الفهم :
_ جرى إيه يا زينب يا أختي؟ أنتِ فاهمة أنا قصدي إيه؟ متلفيش وتدوري بنت أخويا ولازم اطمن عليها.
_ بنت أخوك، طب كويس إنك لسه فاكرة إنها تبقى بنت أخوك.
قالت زينب بسخرية، فاشتعلت الأخرى غيظًا، وهتفت بضيق من نبرة السخرية في صوتها:
_ أيوه طبعًا بنت أخويا، واعدلي كلامك معايا، المهم أنا عارفة إن عبد الصبور نزل الشغل، بنتك فين؟ تقومي بسرعة تجهزيها قبل ما أبوها ياجي .....
قاطعتها زينب بحدة، و عيون متسعة غاضبة:
_ اجهزها ليه؟ و هتروح فين؟ أنتِ ناوية على إيه يا سعاد؟
_ هاخدها لواحد معرفة يشوفلها حظها المنيل ده، قومي بسرعة يالا.
قالت كلماتها دفعة واحدة ثم علقت انظارها عليها تنتظر ردها، في حين استشاطت زينب وهتفت بضيق شديد، وهي تستدير من خلف المقعد لتجلس عليه:
_ على جثتي مش هاخد بنتي لحد، عبد الصبور مش هيوافق، ولسه مزعق الصبح، أنا كنت بفكر زيك كدا، بس بعد تفكير اللي بنتي فيه ده مش سهل يا سعاد.
هتفت سعاد بضيق ونبرة متهكمة:
_ عارفين إنه مش سهل، بس البت حظها زي الهباب، أكيد حد عاملها حاجة، احنا بقينا في زمن تتوقعي فيه كل حاجة يا زينب، وبعدين هي بنتك كدا عايشة؟ لا بتنطق ولا بتحس بيكم.
طالعتها زينب بصدمة، فأكملت سعاد مبتسمة :
_متستغربيش أنا عارفة كل حاجة عنها عبد الصبور مبيخبيش حاجة عني، أنتِ عارفة أنا أقرب واحدة ليه، متزعليش مني يا زينب، بس اللي حصل لبنت أخويا ده مش طبيعي، والعمر بيعدي والبت بالسيرة دي هتعنس جنبك، ولا عمرها هتبقى زي بقية البنات، دول اللي في سنها متجوزين ومخلفين يا زينب، والناس مبتسكتش ولا بتنسى وطول ما أنا جاية سامعة كلام يقطع القلب يا أختي، دول مطلعين عليها ألقاب، منهم لله وكدا البنت بتموت بالبطيء.
نظرت زينب أرضًا وهي تعقد أصابع يديها ببعضهما البعض تضعهما في حجرها، وغمغمت بصوت ضعيف :
_ الطب اتطور دلوقتي وأكيد هيلاقوا حل ليها، بعدين الدكتور متابع معاها، هي بس لسه في صدمتها وهتفوق منها إن شاء الله، والناس مهي بتتكلم عمّال على بطال، ربك اللي يجيب الحق لأصحابه، ريحي بس من الطريق وهقوم أجهزلك حاجة تاكليها.
أنهت حديثها ثم انتصبت واقفة وتوجهت إلى المطبخ، هتفت سعاد من خلفها :
_ فكري في كلامي وسيبك من الدكاترة، وتعالي ناخدها وهناجي على طول.
********
_ وأخيرًا خلصت !
قالت سلمى بابتسامة عريضة، وهي تنظر إلى رسمتها الجميلة، قربتها من فمها وقامت بتقبيلها بفرحة، ثم نهضت واتجهت حيث ورد التي تركتها جالسة على صخرة بالقرب منها، وهي تقول بابتسامة بريئة:
_ ورد خلصت شوفي رسمـ.....
ابتلعت باقي حروفها عندما وقعت عيناها على المكان الذي كانت تجلس عليه أختها قبل بضع دقائق، ثم أخذت تنادي عليها وهي على وشك البكاء :
_ ورد، أنتِ فين؟
_ بتصرخي ليه؟
شهقت سلمى بفزع ثم قالت بدموع شديدة ونبرة متقطعة إثر البكاء :
- مؤيد، زغفتني أنا بدور على أختي ورد مش لاقياها كانت هنا، هي روحت معقول وسابتني.
أمسكها مؤيد من كتفيها وهتف يطمئنها رغم صغره:
_ اهدي يا سلمى، هي ممكن تكون لسه هنا، تعالي ندور عليها أنا هروح من الجنب ده، و أنتِ من الناحية التانية وهنتقابل هنا ماشي، إن شاء الله هنلاقيها.
رددت وراءه بدموع وشهقات :
_ يارب يارب، ورد عيانة مكنش ينفع تنزل، ماما كانت بتقول كدا وأنا اللي اصريت عليها.
ربت مراد على كتفها وهتف بهدوء :
_ متزعليش هنلاقيها يالا بينا.
********
_ يعني إيه الكلام ده؟
هتف بها عبد الصبور وهو يجلس أمام مكتب الطبيب المسؤول عن حالة ورد، بعد حديث زوجته في الصباح عن وضع ورد الذي يسوء مع مرور الأيام، قرر الذهاب إليه لعله يقول ما يثلج صدره، ولكنه أخلف ظنه بكلماته التي قسمت قلبه.
وضع الطبيب نظارته الطبية على سطح مكتبه، وهتف وهو ينقي كلماته بحذرٍ شديد:
_ ورد، للأسف عايشه في غيبوبة كبيرة هي مش واعية ليكم، بتسمعكم وشايفاكم لكن مش حاسة بيكم نهائي، هي بالظبط زي اللي دخل في غيبوبة، حضرتك بنتك مستجابتش للعلاج ولا اتكلمت معايا، بنتك شايلة كل حاجة جواها ورافضة تتطلعها، بنتك زوجها توفى يوم فرحه واترملت وهي لسه عروسة.
صمت الطبيب لثواني يضغط على شفته بحزن، عندما رأى الحزن والهم يكسو معالم وجهه، ثم أكمل حديثه :
_وقبلها كان في شابين متقدمين ليها وبردو توفوا، في نفس التاريخ، ده غير اللي ماتوا وهما يدوب لسه بيتقدموا، واللي عرفته إن زوجها هو اللي غيابه عامل شرخ صعب الأيام تداويه؛ لأنه كان حب سنيين مش يوم وليلة وحسب الظروف ما صدقت بقى معاها أخيرًا وجه الموت وخطفه منها، وهي ملحقتش حتى تفرح بوجوده معاها، مفيش ولا دمعة واحدة نزلت منها، هي بتنهار داخليًا واحدة واحدة، ومن الخارج مفيش أي حاجة بتظهر أو ده خلاص بقى حقيقة، وهي لامبالاتها بأي شيء بيحصل من حواليها، وحضرتك حكتلي بردو عن البيئة اللي عايشة فيها وقد إيه بتسمع كلام يجرح؟ ومفيش أي رد فعل نهائي منها.
أدمعت عيناه حزنًا على ابنته، وهتف بتقطع يتخلله ألمه:
_ مفيش أمل، خلاص بنتي هتقضي حياتها كدا، عايشة ومش عايشة.
أخفض الطبيب رأسه للأرض، ثم هتف بأسف حقيقي:
_ أنا آسف بجد ليك، بس هي رافضة العلاج أنا بقالي سنة ونص معاها بالظبط، من يوم الحادثة ومن قبلها كمان، متنساش إنها اتأذمت نفسيًا لما مات الشابين وهي مكنتش مستعدة للعلاج، والوضع زاد سوء من بعد وفاة جوزها، أنا بقترح تبعدوها عن الأجواء دي والمكان ده اللي شاهد على مأساتها.
تابعه عبد الصبور بعينيه يدور حول معالم وجهه بتيهٍ شديد، تنهد الطبيب متحدثًا بهدوء شديد:
_ تودوها مكان تاني، أنت قولتلي إنك بتلاحظها دايمًا بتبص للعمارة اللي في مقابيلكم، واللي المفروض فيها شقتها تحديدًا مع جوزها المتوفي وده مش هيساعد في العلاج، بالعكس بيزيد الطين بلآ، يمكن لما تغيروا مكانكم يجد في الأمور حاجة، مع إني عرضت عليك تسيبها عندي في المستشفى، بس أنت رفضت وأنا مقدر سبب رفضك، وإن شاء الله الاقتراح يجيب نتيجة المكان الجديد هيبني ذكريات تانية، وهتقابل فيه ناس أحسن إن شاء الله.
أنهى الطبيب حديثه ونهض عبد الصبور، مبتسمًا بوهن شديد، انعكس على حديثه :
_ أنا متشكر لمجهودك معانا يا دكتور، بس أنا للأسف كل شغلي هنا، واستقرينا هنا من زمان، صعب انقل لمكان جديد، لأني معرفش غير البلد دي، ولكن هحاول علشان خاطر بنتي بس.
********
_ ماما، ماما الحقيني !
كانت لا تزال تجلس برفقة تلك السيدة عمة ورد وهي تثنيها عن ما اعتزمت فعله، عندما وصل إلى مسامعها صوت ابنتها الصغرى سلمى تصيح ببكاء شديد من وراء الباب، وقع قلبها أرضًا من شدة الذعر ونهضت بفزع واتجهت صوب الباب، فتحته بسرعة، شهقت بصدمة حينما وقعت عينيها على ابنتها سلمى وهي تنتفض ببكاء شديد.
تنحنحت زينب عدة مرات، ولكن خرجت الكلمات متناثرة من شدة الخوف، وهي تدور بعينيها على ملامح ابنتها المذعورة:
_ في إيه؟ ورد، فين يا سلمى، وبتعيطي ليه؟
استمرت سلمى في البكاء، فهتفت والدتها بغضب وقد طفح كيلها:
_ اخلصي يا بت، سيّبتي رُكبي، أختك فين؟
ترنحت في وقفتها، بل شعرت بأن الدنيا تدور بها، عندما أكملت سلمى حديثها المتقطع من بين شهقات بكائها:
_ ورد اختفت، مش لاقياها.
شهقت سعاد بقوة وضربت على موضع صدرها ثم تشدقت قائلةً:
_ يادي الفضايح، كان مكتوب لك ده فين يا أخويا؟ البت طفشت.
صرخت سلمى وهي تبكي بشدة؛ عندما وقعت والدتها أرضًا من الصدمة.
********
بعد خروجه من عند الطبيب، أخذ يتمشى على غير هدىٍ يفكر في ما حدث قبل سبع سنوات من الآن، كم كانت حياته هادئة، ومنزله لا تنقطع منه الضحكات والفرح، هبطت دموعه مغرقة وجهه، وانفلتت شهقاته عاليًا، وضع يده على فيـههِ يكتم بكائه، ثم ارتكز إلى الجدار خلفه وقد هاجمت الذكريات عقله.
**
_ الحج عبد الصبور قلبي.
رفع ذراعه وبسط كفه على خدها دون أن يستدير لها، وهو جالسًا على مقعده يقرأ الجريدة كما اعتاد كل يوم:
_ يا بكاشة أنتِ، قولي يا هانم عايزة إيه؟
قبلت خده بسعادة و أحكمت يدها خلف رقبته وهي تعانقه وتبتسم، ثم غمغمت بصوت مرح :
_ هو مينفعش أحب في بابا كدا من غير مقابل ولا إيه؟
أقبلت في تلك الأثناء والدتها زينب وهي تهتف بغيرةٍ:
_ والله، يا سلام يا أخواتي على المنظر ده.
ضحكت ورد على تهكم والدتها وغيرتها الواضحة، ثم هتفت بابتسامة:
_ يا حجوك شامم ريحة الشياط دي.
قال عبد الصبور يجاريها وهو ينظر إلى زوجته :
_ اها عندك حق في حاجة فعلًا بتتحرق، زينب أنتِ نسيتي حاجة في الفرن، في ريحة حريق قوية.
صرخت زينب بانفعال وتهكم مضحك:
_ ده قلبي اللي بيتحرق هنا، أنتِ يا بت بحسك ضرة ليا، في إيه وحاضنه جوزي كدا ليه؟ بتغيظيني يا ورد يعني؟
ردت ورد ببساطة شديدة، وهي تستدير من خلف والدها، ثم جلست على قدميه بدلالٍ، ولفت ذراعيها حول رقبته:
_ ده عبد الصبور قلبي، يعني ليا فيه أكتر ما ليك، ويا تقبلي بالوضع ده لا تنسحبي، انسحبي انسحبي علشان مش قدي أصلًا ده حبيبي وبيحبني أكتر منك.
نهضت ورد فجأةً، و تراجعت للوراء بذعر، ثم هتفت بنبرة مضحكة، عندما رأت والدتها قد انحنت وحملت بين يديها الحذاء المنزلي الخاص بها:
_ اهدي يا منار، محصلش حاجة خلاص يا زينبو.
رددت زينب باندهاش:
_ زينبو؟ هي حصلت كمان طيب تعالي بقى.
ختمت حديثها وهي تركض خلفها وكانت ورد تصرخ من شدة الضحك، بينما تختبىء خلف والدها، و زينب تحاول الاقتراب منها، وهي تتحامى في ظهر والدها، ودوّت أصوات ضحكاتهم على تلك المشاكسة اللطيفة بين والديها.
_ أنت كويس يا عمي؟
آفاق من شروده على صوت ذلك الشاب الذي يضع يده على كتفه، فهتف بتقطع ونبرة خافتة مرتعشة، كما يرتعش قلبه بداخله من شدة الألم:
_ خد ايدي يا ابني، مش قادر اصلب طولي، عايز ألحق صلاة الظهر وديني الجامع، عايز اشكي لربنا قلة حيلتي وهواني على الناس، هو الرحيم بعباده قادر على كل شيء.
_ ونعم بالله يا عمي، تعالى قوم معايا، هات ايدك أنا كمان رايح المسجد.
*********
_ ١٢٥، ١٢٦، ١٢٧، ١٢٨، ١٢٩، ١٣٠.
ختم حديثه وهو يرفع رأسه عن صدرها حيث كان يستند عليه تحديدًا فوق قلبها، اعتدل في جلسته، وقد حلت ابتسامة واسعة على وجهه، وهو ينظر نحوها بعيون تفيض عشقًا لها، ثم دنا منها برأسه في رفقٍ، ذراعيه تحاوطان وسادتها، ثم همس بجوار أذنها وهو يبعد خصلات شعرها عن جبهتها، بعد أن أرخى أحد ذراعيه :
_ ١٣٠ نبضة في ١٠٠ ثانية.
يتبع ....
#الهوس
#نورهان_ناصر
إرسال تعليق