المشهد السوري/الهرم المصرى نيوز

 

محمود إسماعيل حلمي

    لم يكن لي من قبلُ علمٌ بأَنَّ كتاب الدكتور العميد طه حسين المعنون "المعذبون في الأرض" كان له نصيبٌ من الحرمان من النشر في مصر عند ولادته إلا عند قراءتي مقدمته؛ إذ تبين لي أنه قد نُشِرَ أول ما نُشِر في لبنان الشقيق، على ما كان من نشره بالفعل في الصحف المصرية قبلًا. ولستُ أدري إلى هذه اللحظة علل منعه من النشر في مصر المحروسة سوى أَنَّ هذا العمل الأدبي الخالد كاشف؛ حيث إنه يحاول أن ينهض بدور، كما حال كتب الدكتور العميد الأخرى، في الترقية بحال مصر من جوانب شتى، فلقد كان الرجل معتدا بهذا الشأن اعتداد المثقف الحريص على وطنه، ومعنيا عناية الشاب الذي بلغ مبلغًا من الشيخوخة من أثر الحزن على حال أمته. لم يكن "المعذبون في الأرض" قصصًا محضًا، ولم يكن مقالات صرفة، وإنما هو مزيج بين القصص والمقالات التي من شأنها أن تضفي على العنصرين طابع المقالات القصصية. وحريٌ بنا في هذا المقال القصير أن نشير بشكل يعمه الاقتضاب إلى غاية هذا المؤلَف ومنتهى أهميته من حيث أسلوب مؤلِفه وموضوع المصنف كليهما.

    كان طه حسين صريحًا مع قرائه منذ الفصل الأول في أنه لا حاجة له إلى كتابة قصص قصيرة تقليدية؛ فهو غير مهتم بشكل القصة الذي يمليه على مسامع الساحة الأدبية النقاد، كما أنه يرى فن القصة يتألف من أحاديث إلى القارئ، وعليه فإِنَّ صديقنا المؤلِف يحاول أن يحادث القارئ كما لو أنه أمامه يصغي إليه، ويبذل في سبيل ذلك ما استطاع من سعي. فنجده في الفصل الأول يقول مثلًا عند عرض إلى بعض الأسئلة التي من الممكن أن يسألها قارئ بخصوص قصة صالح:

 "لا أضع قصة فأُخضِعها لأصول الفن، ولو كنتُ أضع قصة لما التزمت إخضاعها لهذه الأصول؛ لأني لا أؤمن بها، ولا أذعن لها، ولا أعترف بأن للنقاد مهما يكونوا أن يرسموا لي القواعد والقوانين مهما تكن، ولا أقبل من القارئ مهما ترتفع منزلته أن يدخل بيني وبين ما أحب أن أسوق من الحديث، وإنما هو كلام يخطر لي فأمليه ثم أذيعه، فمَن شاء أن يقرأه فليقرأه، ومَن ضاق بقراءته فَلْينصرف عنه، ومَن شاء أن يرضى عنه بعدُ فَلْيرضَ مشكورًا، ومَن شاء أن يسخط عليه بعد القراءة فليسخط مشكورًا أيضًا. والمهم هو أن يخطر لي الكلام، وأن أمليه، وأن أذيعه، وأن يجد القارئ ما يُشعِره بأن له إرادة حرة تستطيع أن تغريه بالقراءة، وأن تصده عنها، وأن يشعر القارئ أيضًا بأن له ذوقًا صافيًا يستطيع أن يعرف في الأدب وأن ينكر، وأن يقبل من الأدب أو يرفض، وليس هذا كله بالشيء القليل. وما أحب أن يظن القارئ أني أتحكم فيه أو أتجنى عليه، فأنا أبعد الناس عن التحكم، وأزهدهم في التجني، وأشدهم للقارئ حبًّا وإكبارًا، ولكني لا أحب أن يتحكم القارئ فيَّ، ولا أن يتجنى عليَّ، ولا أن يخضعني لذوقه، كما لا أحب أن أُخضِعه لذوقي. ويجب أن تكون الحرية هي الأساس الصحيح للصلة بين القارئ وبيني حين أكتب أنا ويقرأ هو.". 

    إذا كان لهذا العمل القصصي المشبع بالمقال موضوع معين، فإنه -ولا شك- محاولة لتصوير حياة البؤس وأهله في مصر قبل نشره. ويبدو أن لفظة "البؤس" هنا تعني انتفاء كل ما ينبغي أن يحظى به الإنسان من أدنى القليل ليحيا كريمًا؛ فالبائس إذن هو من ليس له مأكل له يسد حاجته إلى شهوة الطعام، ولا ملبس يستر حاجته إلى الكساء، ولا رعاية عاطفية جادة تحول بينه دون ما كان باعثه الانغماس في التسول النفسي أو ما يتعلق بالأمر من حاجة جنسية مثلًا. ولقد عبر الأستاذ الدكتور طه حسين غير مرة عن هذه المعاني، إلا أن أكثره إعرابًا في هذا الصدد ما جاء في سابع فصول الكتاب المعنون "خطر":

"وقد يذعر القارئ حين يقرأ هذا الكلام، وكم أتمنى أن يكون ذعره صادقًا يبلغ القلب، ويصل إلى أعماق الضمير، ويدفع إلى العمل الذي يعصم مصر من هذه الأهوال التي تنتظرها في طريقها إلى التطور والرقي.

موظف من موظَّفِي الدولة، ليس بالعامل الذي يُحسَب له أجرة مياومة، وإنما هو من الموظفين الدائمين — أو المثبتين — كما يقول الحكوميون. هذا الموظف في الدرجة السابعة، يبلغ مرتبه اثني عشر جنيهًا أو أقل من ذلك قليلًا، له زوجة وخمسة من الولد، وقضت عليه ظروف الحياة أن يعول بني أخته وهم ستة، وأن يعول عمةً له تقطَّعت بها أسباب الرزق، فهم إذن أربعة عشر شخصًا، يعيشون أو يراد منهم أن يعيشوا على هذا المرتب الضئيل. والعيش طعام وشراب ولباس، والتجاء إلى دار يظلهم سقفها، وتحميهم جدرانها من أن تأخذهم الشرطة كما تأخذ المتشردين. وطبيعي ألَّا ينهض هذا المرتب الضئيل بحاجة هذه الأسرة الضخمة، فيكون الاقتراض، ثم يكون العجز عن أداء الدَّيْن، ثم يكون امتناع القادرين عن الإقراض ما داموا لا يستردون ما يقرضون، ثم يكون الحرمان، لا أقول من طيبات الحياة، فليس لمثل هذه الأسرة أمل في طيبات الحياة، وإنما أقول مما يقيم الأود ويرد ألم الجوع. ثم يكون الحرمان، لا أقول من الثياب التي تقي حرَّ الصيف وبرد الشتاء، فليس لهذه الأسرة في هذه الثياب أمل، وإنما أقول من الثياب التي تستر ما يجب أن يُستَر من الأجسام. ثم يكون الحرمان، لا أقول من الفرش الوثيرة، فليس لهذه الأسرة في الفرش الوثيرة أمل، وإنما أقول من الحصير الذي يحول بين أجسامها وبين الأرض، ومن الغطاء الذي يُخَيَّل إليها أنها تحاول أن تتقي به البرد. ثم يكون الضيق بالحياة، ثم يكون الالتجاء إلى الأغنياء بطلب المعونة، ثم يكون إعراض الأغنياء عن هؤلاء اللاجئين البائسين، إما لأن قلوب الأغنياء قاسية، وإما لأن هؤلاء اللاجئين ليسوا وحدهم طلَّاب العون وإنما لهم شركاء في الالتجاء والتماس البر، وإما لأن الأغنياء يرون أن من الحق عليهم أن يُحسِنوا ولكنهم يرون أن من الحق أن يُنظَّم الإحسان حتى لا ينتشر الأمر، وحتى لا يلجأ إليهم البائس ومتكلِّف البؤس، وحتى لا يُتَّخَذ التسول صناعةً وحرفةً، وحتى لا يُتَّخَذ البر وسيلةً إلى طمع الناس فيما ليس في أيديهم من يسر الموسرين؛ وإما لهذه العلل كلها مجتمعة ولعلل أخرى كثيرة يمكن أن تضاف إليها وليس في إحصائها نفع لأحد.". 

    وإذا كان البؤساء جماعة طه حسين المغمورة، كما ابتكر المصطلح فرانك أوكونور، فمن الأهمية بمكان أن نطرح سؤالًا مفاده: هل هذه الجماعة مغمورة أم ممثلة الشعب المصري بأكمله؟ الراجح عندي أنها ليست مغمورة بالمعنى الحرفي لللفظة، أو -إن شئت- قل: الشعب كله جماعة مغمورة؛ حيث تناول الرجل الحديث عن جماعته في صورة جمعية غير مرة. فهو متى تحدث عن صالح مثلًا، ذلك الصبي المرقعة ثيابه والجائع الذي احتاج إلى دعوة صبي آخر للعشاء، ذكر أنك تجد في مصر صالحًا كثيرًا:

"وأكبر الظن أن صالحًا هذا لم يوجد قطُّ؛ لأنه يملأ المملكة المصرية من شرقها إلى غربها، ومن شمالها إلى جنوبها، يوجد في القرى، ويوجد في المدن، ويوجد في كل مكان، يملأ مصر نعمة وخيرًا، وهو مع ذلك يُشعِر الناس بأن مصر هي بلد البؤس والشقاء. وأنا أزعم أن قارئ هذا الحديث مهما يكن لا يستطيع أن يقضي يومًا من دهره أو ساعة من يومه دون أن يرى صالحًا هذا الذي لا يجد ما ينفق، والذي يود أن تتاح له الوسيلة ليجد الغداء أو العشاء، عند رفيقه ذاك الصبي الذي لم نجد له اسمًا إلى الآن. فَلْنتفق على أن اسمه أمين، وعلى أنه كان يختلف إلى الكتَّاب مع قليل جدًّا من أمثاله." هنا وجبت الحاجة إلى الملاحظة بأنَّ أمثال صالح كثرٌ، في حين يقل عدد الصبي الآخر الذي يرحل معه إلى الكتاب، أو -إن شئت- قل: الصبي الذي اتفقنا معه على تسميته أمينا. يؤكد صديقنا المؤلف عند حديثه عن أمينة وابنتها سكينة في الفصل الثاني المعنون "قاسم" أيضًا على كثرة أمينات وسكينات، وأنهما ليستا حالة استثنائية عند نظر الناظر. وأمينة أم لسكينة، اكتشفت انسلاخ سكينة من البيت في ظلام الليل في إحدى الليالي المشؤومة، إذ اتضح بعد التضييق عليها من قبل أمها أنها ذهبت في لقاء مع الحاج محمود زوج عمتها، ما دل على وجود علاقة حب بغيضة بينهما ذكرها في الفصل كذلك، ويمكن عنونة هذه العلاقة الأثيمة ب"الافتقار إلى الحاجة المالية والنفسية معًا":

"وقد يحب القارئ أن يعرف كيف عبث بهما الأمل، وكيف بطش بهما اليأس، وكيف لعبت بهما صروف الأيام، ولكن القارئ ليس في حاجة إلى أن أقص عليه هذه الخطوب، فأيسر شيء عليه أن ينظر إلى هذه الحياة الصاخبة من حوله، فسيرى فيها «أمونات وسكينات» كثيرات لا يُحصَين بالمئات ولا بالألوف، وإنما يُحصَين بمئات الألوف وقد يُحصَين بالملايين، تطلع الشمس عليهن كل يوم مشرقة بنور ربها، ولكنها لا تحمل إليهن رضًا ولا غبطة ولا أملًا في الرضا أو الغبطة، ويُقبِل الليل عليهن مظلمًا قاتم الظلمة يزدان بهذا القمر في أطواره المختلفة، ويزدان بنقط النور هذه التي تنتثر في السماء، ولكنه لا يحمل إليهن راحةً ولا أملًا في الراحة، وإنما يدفعهن إلى نوم ثقيل بغيض كريه يشقين فيه بأحلام بغيضة تصوِّر ما يشقين به في النهار من حياة بغيضة، لا تحفل الشمس بهن حين تطلع، ولا يحفل الليل بهن حين يُقبِل. ومتى حفل الليل والنهار ببؤس البائسين ونعيم الناعمين! ولكن الغريب أن الأحياء من الناس الذين أُتِيحت لهم قلوب تشعر، وعقول تفكِّر، ونفوس تميِّز بين الخير والشر، ونعيمٌ كان خليقًا أن يلفتهم إلى جحيم البؤس، هؤلاء الناس يمضون حياتهم كما يمضي الليل والنهار إلى غايتهما، لا يحفلون بأمونة ولا بسكينة ولا بقاسم، شغلتهم أنفسهم عن كل شيء وعن كل إنسان.". ويقول الأستاذ الدكتور شكري عياد في كتابه المعنون: "القصة القصيرة في مصر: دراسة في تأصيل فن أدبي " عن طه حسين في صفحة 147-148 واصفًا إياه بالجرأة، إذ تحدث صديقنا المؤلف عن جماعته المغمورة بوصفها تشتمل على الشعب بأكمله:

"ولكنهم لم يستطيعوا - للوهلة الأولى - أن يصوروا أزمتهم من خلال الأزمات الطاحنة التي تعانيها الطبقات الدنيا. كانوا يقرأون شيئاً كهذا في الأدب الروسي ولكن انتزاع شخصيات مطحونة من بيئتهم هم ؛ والتعبير من خلالها عن خصامهم مع المجتمع كان يبدو لهم شيئاً جد عسير وكان لا بد من جرأة طه حسين وثقته وهيبته التي لم تعف كتابه من المصادرة) لتسقط الحواجز الشكلية وينفتح سبيل جديد، واسع وممتد - القصة المصرية القصيرة بوصفها تعبيراً عن الشعب المغمور”، وقد أصبحت كلمة الشعب هنا تعنى الشعب كله فعلا، فأى ثراء وأى حياة وأى خطر لهذا الفن الذي أوشك أن يتحول إلى تسلية محضة. والمعذبون في الأرض، يمكن أن تقارن من حيث اجتراؤها - لأول مرة - على تصوير حياة الطبقة الدنيا من الشعب (بصور صياد” لتور جنيف.".

    وجملة القول أنَّ "المعذبون في الأرض" عمل ليس بالقصصي المحض، وليس بالمقالي البحت، وإنما هو مزيج بين الصنفين ابتكر عن طريقه طه حسين صياغة جريئة في إرسال الرسائل المعني بها، وذلك بحديثه عن الطبقة الدنيا في مصر؛ فما كان له أن يستتر في تعبيره عن قصص المعذبين في الأرض المصرية، وذلك عندما وضع نفسه هكذا أمام قارئه دون قناع أدبي يختبئ من ورائه. ولعل هذه الطريقة الضاربة بعمقها في الوضوح هي التي بعثت على منع الكتاب من النشر ساعتها.

المراجع:

كتاب "المعذبون في الأرض" – تأليف طه حسين – إصدار 2014 (نسخة هنداوي).

كتاب "القصة القصيرة في مصر: دراسة في تأصيل فن أدبي" – تأليف شكري عياد – دار المعرفة (الطبعة الثانية) 1979 م.