التقى د. بدر عبد العاطى وزير الخارجية والهجرة مع السيد " ألكسندر دي كرو " رئيس وزراء بلجيكا، ـ جريدة الهرم المصري نيوز

 

بقلم/ احمد السيد جاب الله 

بعد تخلص الشعب السوري من بشار الأسد والدائرة المحيطة به، وهروبه إلى روسيا هو وعائلته أمس، عمّت الفرحة قطاعات واسعة من الشعوب العربية، لكن في الوقت نفسه ساد بينهم شعور بالقلق والتوجس من مستقبل سوريا. والكثيرون من هؤلاء رأوا أن بالإمكان تكرار تجربة الصراع الداخلي بين فصائل المعارضة كما حدث في أفغانستان عقب خروج الاتحاد السوفيتي أو كما حدث في العراق وليبيا عقب التخلص من أنظمة الحكم فيهما. 

كما توجست هذه القطاعات كذلك من توحش المطامع الإقليمية والدولية وازدياد نهمها للحصول على أكبر نصيب من "الكعكة السورية"، خاصة وأن تلك القوى ساهمت بدرجات مختلفة في دعم المعارضة حتى وصلت إلى ما وصلت إليه. 

والحق أن هذه المخاوف منطقية وواقعية ومشروعة، ومن يغفل عنها تحت نشوة الخلاص من بشار الأسد فمثله كمثل من يدفن رأسه في الرمال. لكن ما هو المنهج المناسب للتعامل مع هذه التحديات وتلك المخاوف؟ هل بالندم على نظام حكم بشار الأسد؟ أم بالترحيب بتغييره مع التأكيد على شكل سوريا الجديدة التي يريدها الأحرار المخلصون الوطنيون الواقعيون؟ 

من المؤكد أن سوريا تحت حكم بشار لم تكن بخير، وأن كل يوم كان يمر عليها يؤخرها للخلف عشرات السنين. فالرجل صم أذنيه عن دعوات الإصلاح التي نادت بها الثورة السورية في بدايتها عام 2011. آنذاك لم تكن الثورة تطالب بتغيير النظام وإنما فقط بإصلاحه من الداخل، وتحديدا كف يد الأجهزة القمعية عن إذلال الشعب وتعذيبه. رفض بشار الاستماع لتلك المطالب وقرر مواجهة الثوار بالعنف المفرط، فرمى عليهم البراميل المتفجرة وقصفهم بالطائرات المقاتلة وضربهم بقذائف المدفعية وسلط عليهم الشبيحة، ثم فتح أبواب السجون وأطلق سراح الدواعش وزودهم بالسلاح. فلم يكن أمام بعض شرائح الشعب من خيار لحماية أنفسهم وأعراضهم من هذا التوحش سوى حمل السلاح، ومن هنا بدأ عسكرة الثورة. 

وقد قتل بشار في تلك السنوات الثلاثة عشر مليون سوري وفق تقديرات المعارضة وما بين 500 إلى 600 ألف وفق تقديرات المنظمات الدولية، وأجبر ١٤ مليونا على النزوح والهجرة، من أصل ٢٣ مليونا هم تعداد الشعب، كما دمر مساحات واسعة من البلاد.

استمرت الثورة السورية في معارضتها ومطالبتها بتغيير هذا النظام المتوحش، وكادت تسقطه بعد أن سيطرت على أجزاء واسعة من سوريا واقتربت من حدود قصر الحكم، لولا تدخل إيران وحزب الله. ولما لم يستطع هذان تقديم كامل الإسناد لإنقاذ النظام استعان بروسيا عام 2015 التي اشترطت عليه تقديم جزء من أرض سوريا لإقامة قاعدتي طرطوس البحرية وحميميم الجوية وهو ما كان. 

كما اشترطت عليه إيران إقامة قواعد عسكرية ونقاط أمنية وعسكرية لاستمرار حمايتها لنظامه فوافق، ومن ثم شرعت في زيادة وجودها العسكري الذي بلغ تعداده،  وفق مركز جسور للدراسات، 52 قاعدة عسكرية، إلى جانب 477 نقطة أمنية وعسكرية.

ولم يكن هدف إيران ترسيخ وجودها العسكري في سوريا فحسب بل كان من ضمن أهدافها، والذي عملت عليه، إحداث تغيير ديمغرافي ومذهبي في العديد من المناطق، وهو ما تم بتهجير جزء من سكان تلك المناطق وإحلال آخرين قدموا من إيران والعراق وأفغانستان وباكستان تحت مسميات مختلفة. 

إزاء هذا الوضع رأت الولايات المتحدة الأميركية أن إعادة إحياء تنظيم الدولة (داعش) ليس من مصلحتها فجاءت وزادت من وجودها العسكري في منطقة معبر التنف وأقامت هناك قاعدة عسكرية جديدة لقوات المعارضة المسلحة التي كلفتها بمحاربة تنظيم داعش، وهي قوات سوريا الديمقراطية (قسد/الكردية). 

ولما رأت تركيا أن الأكراد على حدودها تزداد قوتهم العسكرية وأن لهم مطامح لإقامة دولة قررت التدخل لإجهاض هذا المسعى، فتدخلت مباشرة تارة وعبر فصيل معارض آخر قدمت له الدعم وهو "الجيش الوطني السوري" تارة أخرى، وقد نجح هذا الجهد في تقليص المخاطر الكردية لكنه لم يقض عليها بالكلية. 

وهكذا، كان قرار بشار الأسد عدم الانصات إلى دعوات الإصلاح بداية كل الشرور التي شهدتها سوريا بعد ذلك، من حرب أهلية ومن نشاط الدواعش ومن التدخلات الإيرانية وحزب الله وروسيا ثم الأميركية والتركية، حتى أصبحت البلاد مستباحة من كل القوى الإقليمية والدولية والجماعات المسلحة من كل عرق ومذهب ولون وانتماء. 

لهذا كان الشعب السوري مصرًّا على تغيير هذا النظام واستعادة سوريا مرة أخرى لعله يستطيع أن يعيد رتق نسيجها الاجتماعي الذي تهرئ، ويحافظ على وحدتها، ويحمي سيادتها من جديد، ذلك لأن بقاء الوضع على ما هو عليه يعني استمرار القتل والدم والفساد واستمرار فتح البلاد أمام الدواعش والنفوذ والتدخلات والاحتلال الأجنبي. 

وفي لحظة تاريخية نادرة استغل الشعب السوري المعارض للنظام الظرف الإقليمي والدولي وكانت العوامل تسانده هذه المرة بعدما لم تكن من قبل. فالهدف الاستراتيجي للولايات المتحدة وإسرائيل هو الخلاص من محور المقاومة الإيراني المتمثل في إيران نفسها وحزب الله والجماعات الموالية لها هنا وهناك، وهو ما عبر عنه بنيامين نتياهو بـ"بتغيير البيئة الأمنية في الشرق الأوسط". 

على مدى شهور طويلة استهدفت إسرائيل الوجود العسكري الإيراني في سوريا حتى قلصته، ثم وجهتها ضربتها إلى حزب الله فأضعفته، وبكل عنف وشراسة حولت قطاع غزة بكل من فيه إلى تراب، وجاء الدور على بشار الأسد الذي لا يزال يرفع ولو على المستوى النظري شعارات "المقاومة"، والذي فتح بلاده للوجود العسكري الإيراني ولقوات حزب الله، فوجهت إليه تلك الضرب المتمثلة في غض الطرف عن إسقاط نظام حكمه حتى ولو أدى ذلك إلى تحويل سوريا إلى دولة طوائف وأعراق وجماعات وميليشيات يقاتل بعضها البعض، المهم ألا يكون فيها إيران أو حزب الله أو أي قوة من شأنها أن تمثل تهديدا لإسرائيل. 

وقد وافقتها على ذلك الولايات المتحدة الأميركية التي ترى في إيران وحزب الله أعداء. 

وكان الفرصة مواتية أمام تركيا للخلاص من مشكلة اللاجئين السوريين على أرضها والتي كادت أكثر من مرة تسقط حزب العدالة والتنمية وأردوغان في الانتخابات، والتي أصبحت مشكلة سياسية اجتماعية تنذر بخطر مجتمعي رأينا شظاياه وانفجاراته بين الحين والآخر هنا وهناك في المحافظات التركية. 

أما روسيا فلم تكن مرتاحة لزيادة النفوذ العسكري الإيراني ومزاحمتها في سوريا، كما أنه من المحتمل أن تكون تركيا قد حيدتها في هذا الصراع بتوافقات معينة، فضلا عن أنه من غير المستبعد أن تكون قد حصلت من إدارة ترامب القادمة على وعود بتسوية الملف الأوكراني بما يخدم مصالحها. 

وهكذا تجمعت المصالح الإقليمية والدولية في ظرف تاريخي نادر مع مصالح الشعب السوري المعارض للخلاص من نظام حكم بشار الأسد. 

وهكذا سارت العملية بتفصيلات ومفاجآت كثيرة. وقد رأت إيران أنها تراهن على "حصان" خاسر، فرفعت أيديها عنه في الساعات أو الأيام الأخيرة من وجوده في دمشق، خاصة بعد أن رفض العراق السماح لقوات الحشد الشعبي والفصائل التابعة لإيران بالتدخل. 

هذا هو المشهد في صورته العامة. أما ما سيحدث في المستقبل، وهل سينجح الشعب السوري في بناء دولة آمنة ومستقرة بعد إزاحة بشار الأسد عن الحكم؟ أم أن الأمور ستخرج عن السيطرة وتتحول سوريا إلى دويلات متناحرة، تتنازعها ولاءات مذهبية واتجاهات متباينة؟ هذا ما لا يمكن الجزم به في الوقت الراهن.

المخاوف تبدو مبررة في ظل الواقع القائم، حيث نجد حكومتين لدى فصائل المعارضة المسلحة: "حكومة الإنقاذ" و"الحكومة المؤقتة"، بينما لا تزال منطقة الساحل تعيش في ظل هواجسها. أما شمال شرق سوريا، فهو تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد) التي وسعت نفوذها. ورغم توحد المعارضة المسلحة عسكرياً تحت قيادة "أحمد الشرع/الجولاني" من خلال غرفة عمليات رئيسية وإطلاق عملية تحت اسم "ردع العدوان"، إلا أن ذلك لم يمنع "الجيش الوطني" من خوض العملية تحت مسمى "فجر الحرية". كذلك، برزت غرف عمليات أخرى في درعا تضم قوى متعددة قبل الوصول إلى دمشق.

كل هذه المعطيات تعزز المخاوف والهواجس التي تسود بعض أوساط الرأي العام العربي إزاء مستقبل سوريا. ومع ذلك، يبقى من المهم على محبي هذا البلد والمؤمنين بحق الإنسان في العيش بكرامة وأمان أن يسعوا إلى تقديم النصح والدعم البناء بدلاً من تعزيز مشاعر الإحباط واليأس، وأن ينقلوا خبراتهم وتجاربهم ليستفيد منها الشعب السوري بدلا من الاكتفاء بتوعده بأن مستقبله مظلم وأرضه ستكون أكثر سوادًا من أيام بشار الأسد.!! فهذا هو المنتظر من العقلاء الحكماء المخلصين.