حِنَّة يا بنات حِنَّة/الهرم المصرى نيوز

 

بقلم الشاعر والأديب/ عبدالناصر أبو بكر .. 

أسوان

هكذا كانت تُعلن بائعة الحِنَّاء عن سلعتها في دروب القرية خلال العقود الماضية التي سبقت دخول الكهرباء:

 ( حِنَّة يا بنااااات حِنَّة ) كان الصوت مجروحاً وحزيناً جداً, ولا يتناسب أبداً مع البهجة التي تصنعها الحِنَّاء إذا تلوًّن بها كعب الغزال, فذلك المسحوق السحري الطبيعي المستخلص من أوراق نبات الحِناء مرتبطٌ بالأفراح والليالي الملاح, وله من الفوائد ما لا يُحصى, فمثلاً ..عند مزج الحِناء والسدر مع بعضهم البعض يدخل هذا المزيج في علاج أغلب المشاكل التي تواجه الناس سواء المشاكل الصحية أو المشاكل الخارجية, فهي تخفف من حدة آلام البطن والظهر الذَين تسببهم الدّورة الشهرية المكتوبة على نساء العالمين, كما أنّ هناك أنواع معينة من الخلايا السرطانية تحاربها الحناء, وهي أيضاً تعالج حَبّ الشباب ومرض الإكزيما, وتعالج الالتهابات اللثوية, وتدخل في صناعة العطور.

لم أرَ غير الحناء المائلة إلى اللون الأحمر بعد استخدامها في راحة اليد, وفي مناطق الجسم المختلفة, غير أنَّ هناك نوعٌ آخر من الحناء .. يعرفه أهل الذِّكر, ويسمّى بالحِنّاء البيضاء, ولا يخفى ذلك النوع عن بنات حواء بطبيعة الحال, وأياً كان لونها فهي مستخلصات طبيعية إذا لم تنفع الإنسان.. فهي من المؤكّد لن تَضرَّه.

نبات الحِنَّاء ليس غريباً على أهل القرى, فهو ينبت على ضفاف التُّرع والمصارف, ويتم الآن زراعته في مساحات كبيرة من الأراضي الزراعية, وهو من التجارات الرائجة في الأسواق, ومعرفة الإنسان لذلك النبات ضاربة في أعماق التاريخ, وليس هو من المكتشفات الحديثة, ولأزهار الحناء رائحة تزكم الأنوف, وتُريح الأعصاب, وترشُّ البهجة على الوجوه الكالحة.

لا شك أنَّ جميع النِّساء لهنَّ مع الحناء علاقات طيبة, ولكن هناك من الشعوب من يزيد اهتمامه بها عن ذلك السّواد الأعظم من الكائنات اللطيفة, فمثلاً شعب السُّودان يعشق الحِنّاء أكثر من الشَّعب المصري بكثير, ولذلك يقول القائل:

( الحِنّة السّوداني / ف أوضة النوم حاجة تاني ) كذلك شعوب المغرب العربي لهم في أحاديث الحناء شجون, وشعوب الدول المتقدِّمة أصبحت تستخدم ذلك المسحوق على اعتباره من أنواع العلاج للبشرة, وليس هو للزِّينة فقط, وإذا كان للسُّودان الصّدارة في استخدام الحناء.. فذلك لوجود العنصر النوبي في شمالها, فالحِنّاء بالنسبة لإنسان النّوبة من ضروريات الحياة, ولهم فيها صولات وجولات, ولا يمكن أن يصل عشق أي شعبٍ للحناء كما يعشقها الشَّعب النُّوبي الذي يرحل إلى بلاد الله حاملاً ثقافته على كتفيه.

وبالعودة إلى السيدة البائسة التي كانت تبيع الحناء للبنات.. لا أعرف لماذا كانت تنادي على زبائنها بصوتٍ حزين, ولكن من الممكن أن يكون لها من الظروف ما يجعلها تتسربل بالأحزان, وأياً كان الأمر فللحناء أيضاً علاقة بالموت كما لها علاقة بالحياة, وقد جرت العادة في بلادنا ان يُرَشَّ جسد المتوفى بمسحوق الحناء بعد الغُسل, والحقيقة أنَّ ذلك ليس من الأمور الجيدة في إكرام الميّت, فذلك المسحوق يجعلك ترى جسد المتوفي وكأنه تعرَّض للحريق قبل حساب الله.

جرت العادة في بلادنا أن تحتفظ كل سيدةٍ بمقدارٍ مناسب من ذلك المسحوق في بيتها, فإذا لم يطرق الفرح الباب.. فمن المؤكد أنَّ الحزن سيطرقه, وفي الحالتين وجود الحناء كان ضرورياً في البيوت.

يقول الصديق العزيز / مراد محمد حسن .. عن سبب حزن بائعة الحناء, وعن ذلك الشجن السَّاكن في حنجرتها :

" نجد شاهداً في قصَّة تراثية أسميها (مين اقوى منى) حيث نجد الزوجة التي يضربها زوجها يوميا تبكي على النافذة فتسقط دموعها في الحنة التي تحملها البائعة التي تلتفت إليها وتقول : ليه بتبكي بابنيتي / دموعك خسّرت لي حِنتي ..

وفي الدور الشعبي الشهير فيما يخص الحناء:

ياراهب الدير ياقديس ياحنا / ياللا افتح الباب،خلينا نشوف حالنا "

على المستوى الشّخصي أنا لا أحب الحناء, ولا أرى فيمن يستخدمها جمالاً, وقد أوصيت من يهمه الأمر بعدم رشّ ذلك المسحوق المخيف على جسدي إذا قضى الله أمراً كان مفعولا.