لا تجعل يدك مغلوله فتخسر البركه ويتبعها الندم/الهرم المصرى نيوز

 

بقلم / محمد عبد الحميد العرضي 

- امضغ، ابلع، شاطر.

أصرخ مكررة كلماتي، الملعقة تعلق بفمه، ويقفل عليها ناظرًا لي في الخواء، أدق على الطاولة من جديد: امضغ!

يتذكر عملية الأكل ويبدأ من جديد، أنظف الطعام المتساقط من فمه، وأمسح بخرقة ما يتسلل من شفتيه، وينظر للماء فأسارع بسقياه.

يشرب كمن لم يشرب منذ زمن، ينهل الماء نهلًا ثم فجأة يلفظه مع شرقة كأن روحه ذاهبة.

مسكين، ضعيف لا يقدر على خدمة نفسه، الضعفاء أمثاله رزق النساء في الأرض نفيض حتى نبتلعه، نغرقه حنانًا، ومحبة، ثمة إحساس عندنا لا يمتلكه الرجال، نشعر بأننا مسؤولون عن كل شيء، تلتقط عيوننا فجواتهم فنسدها، ونواقصهم فنكملها.

حان وقت الاستحمام، أبدل حفاضته، وأطهره، أغسل وجهه وظهره وتحت إبطه وبين فخذيه، ألبسه ثوبًا جديدًا، وأرتب له نومة هانئة، حتى إذا استوى مستلقيًا خفضت إضاءة غرفته لينام.

الغداء يجب أن يكون جاهزًا، الملوخية تحب الهدوء، والمحبة المتعجلة غير ناضجة، التأني تمام النضج. 

أقطف أوراقها، وأغسلها، أضعها في الهواء لتجف، صوت سعاله يقطع صمت البيت، فأسرع لأطمئن، ربما أساعده ليعدل نومته، قد يحتاج لرفع رأسه قليلا.

أعود للملوخية، أجمع أوراقها التي جفت وأخرطها، وأتركها لتجف.

لا داعٍ للعجلة، الهدوء، الهدوء، هكذا علمتني أمي، أقوم بالبيت وحدي، لا ألتفت لركبتي الخشنة، ولا ظهري الذي يؤلمني، نار هادئة تأكل اليوم.

الذكرى بيت الوحيدات، كان زوجي يضاحكني: ألم يجهز الأكل بعد؟

فأضحك: أنا أقوى من النار؟

فيغمز مقهقهًا: أقوى جدا.

أجلسه من جديد للغداء، وأصرخ مرة أخرى: امضغ، ابلع.

في العشاء يأتي أحد أخوي وربما كليهما، يجلسان يتحادثان، وأحيانًا يساعدان.

في الصباح، بعد الإفطار أرتدي عباءتي وأخرج للسوق، أشتري احتياجي واحتياجات ابنتي، ثم أذهب لمراعاة أبنائها ريثما تعود من عملها.

أنا، المسؤوليات، والمراعاة، والاهتمام، كياني في اهتمامي، وذاتي في إنجازي.

يقولون أنه لا يذكرني، ولا يعرف من حوله، لكني أذكره جيدًا. لا أرعاه لذاكرته إنما أرعاه بذاكرتي، وذكراي، وذكرياتي.

بكف كقطع الصخر، وجلباب فضفاض ودراجة حديدية، مع انسدال الظلام، وانسحاب النور يعود لدارنا، يحكي لأمي عن أشولة القمح والشعير التي حملها، رأس ماله في الحياة صحته، شيال هكذا يسمونه، وأنا أدعوه بطلنا.

يتفقدنا، يربت علينا يسألنا عن دراستنا، ودون أن يلاحظ أحد يغمز لي بكيس لب.

يخصني دون إخوتي، يقول لي أني مميزة، أساعد أمي ببيتنا البسيط وأدرس وليس الكل يقدر على ذلك، ولما كبرت قليلًا أدركت أنه كان يغمز كلُّ منَّا بنفس الكيس.

الآن يجلس بيننا بضخامته المعتادة، وجلبابه الفضفاض لكن الزمن استدار له.

لم أستوعب بالبداية أن ينسانا أبي وأن يجلس بيننا غير مدرك لأسمائنا.

كانت الصدمة الأولى لما أحضره الناس من الشارع في الثانية صباحًا وهو يجلس منتظرًا صلاة العصر، هكذا قال لهم.

لكني أصررت أن الأمر مجرد لبس عليه وأن الناس بشارعنا يبالغون، مازال أبي بكف كقطع الصخر، وتبدل شعره أبيض.

كبر كغيره، اختلفت مع زوجي قديمًا، وأخبرني زوجي أن أذهب لبيت أبي إن كان لا يعجبني، ووقف أبي معلنًا: عندها بدل البيت ثلاثة.

ما الضير في النسيان، أليس الإنسان إنسانا لنسيانه؟ بعض التفاصيل لا تعلق بالذاكرة أو ذلة لسان عابرة يعتبرها الناس علامات الكبر، كلنا كبار إذا!

لكن الرتق اتسع، والتفاصيل الصغيرة أضحت كبيرة، وما يميز الإنسان العاقل أصبح أقلَّ من غيره، عورة تنكشف، وطفولة لشيخ، حتى أسماؤنا استحالت بالنسبة له ذكرى في وادٍ سحيق.

واحتار إخوتي، أينا يقوم برعايته، ابتدرتهم متطوعة، وضنَّ إخوتي عليَّ بالتفرد، فحاولت أمي قليلًا وعجزت، وحاولا توفيق حياتهما فعجزا، وقُمت بالأمر وحدي.

أرملة، لي ابنة أرعى أبناءها، وأب استحال طفلًا، وبين أحفاد وأب يمر يومي.

غير أن ما كان يتعبني حقًا، قوة أبي، كنت أعجز عن إدخال كفه في ثوبه عند إبداله، ومع كل مرة ألبسه فيها أذكر كفه وهو يغمز لي بكيس اللب.

أتذكرني؟ وأحيانًا أصرخ مستسلمة: تعبت يا أبي، حرك يدك معي، يا أبي لا تتفل طعامك عليّ، لا تعطس وأنت تأكل، ولا أدري أيحاسبني الله على لحظاتي تلك؟

لا أظن أن الله يحاسبني على لحظة تعب، وينسى يومي الممتلئ بالفيضان، خمسون عامًا قضيتها، بين زوج وابنة وأحفاد وأب.

الأيام تمر سراعًا، يلاحق بعضها بعضًا، وأبي يستحيل طفلًا أكثر فأكثر، كأنما عقارب الساعة تعود للوراء.

أتجاهل الألم الجديد، لا وقت لدي للتبرم، ولا وقت لديهم للاستماع.

حنَّ صدري للطفولة كما ظننت، لكنه لبن أحمر، دم ينزل رغمًا عني، ونفى الطبيب ما ظننته حنينا، ولكي يؤكد على غياب الحنين أمر بالبتر.

على سرير حولي أمي وأخواي، فقدت بضعًا مني، أمومتي، وأنوثتي، وذاتي، البتر نفذ إلى روحي، وجلس الجميع يتباكون، كلما همَّ أحدهم بالنظر إلي غلبته دموعه.

الأمر أكبر من البتر، الآن يدركون جميعًا معنى أن ينقض عمود بيتك، ووسط ألمي ونصف إدراكي كنت أسأل أيكم أطعم أبي؟

لمَّا عدنا للمنزل حدث ما ظننته هدمًا لما آمن به الجميع، فعلى الأريكة المقابلة للباب كان يجلس مستندًا على عصاه معلقًا بصره على الباب، ما أن رآني حتى انفجر باكيًا، وانفجرت باكية.

لم أقو على احتضانه، ولم يقو على الكلام، تلاقينا بالأدمع، وأطلت ذكراي عبر عقله في لحظة عابرة، ربما كإشراق شمس بعد الكسوف.

زلزال ضربنا من جديد، والبيوت تقوى بالهزات، ودار السؤال بيننا من سيرعاني أنا وأبي.

الكيماوي يأكلني، ونوبات الغثيان والترجيع تهزني هزًّا، ضعف جسدي الواضح، واحتياج أبي للرعاية أذنا بمشكلة ليست مؤقتة.

حاولت أمي جاهدة، وحاول أخواي تنظيم جدول بينهما يتوافق مع أعمالهما، واقترح أحدهما فكرة الاستعانة بمن تخدم الجميع، لكني لم أوافق على دخول امرأة ينكشف أمامها أبي، أو تتحمل ضعفي وغثياني.

أسبوع هو تأثير الجرعة، وبعده سأعاود العمل من جديد، قسما وقتكما لأسبوع، تعاونكما فيه ابنتي، وما أن أشبَّ واقفة حتى أعاود خدمة الجميع.

أسبوع مرَّ، ومع الشروق، عدت من جديد.. امضغ، ابلع؛ بصوت أجذبه من داخلي، وابتسامة أبي تملأ وجهه